قد يتوارى الشاعر خلف أقنعة، ربما قد ينجح في توسيع نطاق رموزه ليحظى بفسحة واسعة للإمساك بدفق الأفكار والصور التي تمثل في خياله. وإذا ما كان الشعر قد غدا لبوساً للبعض من الفصحاء والقادرين على ضبط إيقاعه وبحوره وتشطيره، فإن القضية الأكثر إلحاحاً في هذا الزمن العربي الذي تعتصره الآلام وتشق عليه الصعاب، تتمثل في أهمية المعالجة التي تتناولها القصيدة. إذ لم يعد الشعر مجالاً للتنافح والدوران في حلقة مفرغة من التنابز وكنس الضغائن والأحقاد، بالقدر الذي يمارس فيه سطوته وشفافيته وعنفوانه المهيمن على مكامن النفوس.. وليس من المبالغة إذا ما قلنا أن نبوءة الشاعر ترقى وتنمو لتصنع معجزات تنخذل إزها أشد الأكتاف قوة وعتو.
في تجربة شعورية دافقة معززة بالأمل مثبتة بالجذور والعروق وأصالة الفكرة، تتصدى الشاعرة العربية الأردنية “أمينة العدوان” للتحليق في أفق الشعر الطافح بالوجد الشامخ بالعنفوان المزدهي بالحب.. وأمينة في طقسها الشعري الخاص تحيل القصيدة إلى مكونات شديدة الإحساس، لا يملك القارئ والمتذوق سوى التفاعل مع الكائنات التي تنثرها في “الأعمال الشعرية الكاملة”. وهي الموفقة لإعادة تشكيل الأشياء وترسيم صياغاتها الخاصة، حتى لتشعر أن الأيدي التي ترتكز عليها قصيدة “وداع” نابضة بالحرارة يتحرك فيها الدم ويتراءى أمام عينيك تفاصيل الأصابع التي “تصافح أشياءه”.
تبقى كل الكلمات المبثوثة في الديوان تمتلك الحضور وتمارس تأثيرها الشديد من دون زيادة أو تكلف. وفوق كل هذا تتعالى الدلالات البلاغية واللفظية لتنطق شعراً مغزول بخيوط ذهب ستجد لمعانه وبريقه من الهم الوطني والحس القومي الذي سكن فؤاد الشاعرة، فلا خير أن تتوجه نحو “الدلة” لتشحن فيها كل عواطف الحب نحو الوطن، من خلال حشدها للرموز اليومية، ولكن يبقى “الهرب” الرحيل، المنفى” ينكأ جراح أمينة العدوان يهدهد فيها كل تراتيل الحزن وغمامات الإشفاق على “البحر، النسر الغائب، الصوت الضائع، والأرض”.
في الأرض
جذوراً كان
وبعدها بدأنا
نرى الأشجار
القاموس الذي تنهل منه “أمينة” غني، ثري، بكل التفاصيل التي توحي بالصور المتعددة، فهي في أسئلتها الاستنكارية أو الشواهد الشامخة التي تركن إليها، تتسامق لتعلو على أعدائها والظلام والحجر المنطفئ.
ونتشاجر
ونحن أخوة
كفّ عن العراك
وكثير منا بدون أيدٍ
يمنع الأخوة المتقاتلين عن القتال
أي غلالة تريد الإطاحة بها الشاعرة، وأي الكثير هذا الذي غدا “بدون أيدٍ”! والمعادل الموضوعي شاخص واضح لا يحتاج كثير جهد، فالصدمة حاضرة بادية. إنها المشرط الذي لا يسقط من يدها وهي تصوغ ميزان القصيدة، فلا بد من نتيجة لجميع كتل الصراع التي تنشرها في ميدان متخم بالرموز والعناوين الصارمة.
وحين تصافح الأخوة
وتكاثرت، وتكاثرت الأيدي
عدت ثانية، أراه
ألام الغياب وعذابات الرحيل والأماكن التالفة والوجوه التي لم يعد لها وجود، لم يمنع شاعرتنا من حشد طاقتها الذهنية للتوجه نحو “بناء قواعد للعب” ولكن من دون وعظ أو وصاية، فهي لم تنسل من ثوب الإنسانية، ولم تخرج عن دور الشاعرة المسكونة بهم قضية واضحة المعالم محددة البنيان “وأمينة” بعينها الراصدة ووعيها المتوقد، تستنفر كل طاقتها لأشعار القارئ، بأنها تعيش على الأرض تحيا بين الناس تشاركهم كل شيء، بدءاً من الوجوه التي تلتقيها أو حين تتفاعل مع عشيرتها وقومها.
الشيخ مات
وبكاء، وبكاء، وبكاء
ويغطيه حب الناس والأرض
عباءة، عباءات
والآن
إن لم يأتِ أحد منكم بوجه يشبه وجهه
فسوف تطوى العباءات
إنها بحق شاعرة تجيد الإمساك باللحظة المناسبة، موفقة في وضع قدمها عند المكان المناسب، فهي تحلق حيث يجب، وتطأ أقدامها الأرض حين تبدأ رحلة صيدها الشعري المشبع بالصلوات والأمنيات والشوق إلى صون الذات.
لا أريد لهذا الرأس أن ينحني
لأنه
لن يرى الجبال
إن لم يرفع
من دواخل الأنا، تكون الانطلاقة الصورية نحو تقصي تفصيلات، هي نبض سائد في الحياة اليومية التي عاشتها الشاعرة وعركتها وتماست معها، حتى لتقرب عناوين قصائدها إلى الريبورتاج الشعري، ولكن من دون السقوط في المباشرة. فالرمز بقي دلالياً طافحاً بالعديد والمتنوع من الأفكار والموضوعات المترابطة بوثوق تشدها آصرة وحدة القصيدة:
كان يلقي كل ما تحمله يداه
بقيت واقفاً، لم أبتعد
أمسكت كل ما ألقاه
وعادت تمتلئ يداي
“أمينة العدوان” المليئة يداها بالصور الشعرية الشفافة، العابقة بأريج القصائد المموسقة، الذائبة حباً وعشقاً وهياماً بهموم وطنها وقضايا أمتها، هي صبارة عميقة جذورها في أديم مساحة الشعر العربي، وصوت فيه من الأنين واللوعة والإشفاق كثير، تتلمس الأشياء بقلبها، وتنظر إلى الأحداث بروحها الواثبة، المعززة بالإيمان الأكيد بانتصار قضيتها التي نذرت نفسها وصوتها الشعري في سبيلها.