مع أمينة العدوان في شعرها

الدكتور عبد الرحمن ياغي

مع أمينة العدوان في شعرها:

أمينة العدوان دوماً (غير راضية) عن واقع اجتماعي يلفها بعباءة ترفضها، بينما يلوح لها في الأفق وفي الحلم، وفي اليقظة وفي المنام واقع أفضل، واقع أجمل، واقع أكمل، واقع أنبل، واقع أعدل. وحين تقابل بين الواقعين تشتعل تمرداً.

أمينة دوماً (متوترة) كأن حبالاً تقيد يديها وذراعيها وتكاد تمتد إلى قدميها، وكأنما استبدلت بذلك كله خاطراً حاداً، ونظراً مخترقاً، وطموحاً ممتداً، كأن أمينة تحس أن يداً تترصدها تمنعها من أن يكون لها دور في إحداث التغيير الذي يلوح لها قابلاً للتحقيق ثم لا يتحقق. وكأنما استعاضت عن فعل التحقيق بكلام التحقيق! ومن هنا ظلت الطاقة في داخلها محاصرة مضيقاً عليها لا تجد لها متنفساً. ولهذا حرصت أمينة على أن تخترق ببصرها الحصار لترى نافذة تطل منها على مستقبل أفضل.

*هذه الحالات خلقت من أمينة شاعرة لتواجه بالشعر هذا الحصار أو هذا الواقع المؤذي.

أجل لقد خلقت منها شاعرة واستقرت بها في مملكة الشعر.

حاولت أن تطرق باب الدراسة الفلسفية في الستينات، ثم ارتدت إلى الشعر، بعد أن أنجزت موضوعها: (محدودات بلا حدود).

– وحاولت أن تطرق باب الدراسة الأدبية، في السبعينات، ثم ارتدت إلى الشعر، بعد أن أنجزت دراساتها: (دراسات في الأدب الأردني المعاصر) و (مقالات في الرواية العربية المعاصرة).

أمينة العدوان شاعرة:

رغم كل ما نعرفه من أصول النظام الصوتي للغتنا، ورغم كل ما نعرفه من أصول العلاقات النحوية، ورغم كل ما نعرفه من أصول الصرفيّة، ورغم كل ما نعرفه من أصول العلاقات العروضية، ورغم كل ما نعرفه من أصول العلاقات البيانية والبلاغية، رغم كل هذه الأصول والثوابت في اللغة!.

* أمينة شاعرة مخالفة لكثير من تلك الأصول بل في شعرها، لكننا لا نملك إلا أن نتقبل شعرها، وننشد إلى شعرها، ونواصل الاتصال بشعرها، ولا نملك أن نخرجه من دائرة الشعر الموفق!

لا نغفر لها أخطاءها بل نتجاوز عنها. لكن ما الذي يجعلنا نتقبل شعرها وشاعريتها؟ ما الذي يجعل هذه التشكيلات شعراً ممتعاً؟

لسنا نزعم أن مضامينها هي التي تجذبنا، على ما في هذه المضامين من رؤية صائبة معمقة، مكثفة حادة كحد السكين، ملونة كالفراشات، لا لغو فيها ولا هذر ولا تكثر.

ولسنا نزعم أن هذه التشكيلات أشبه بقصيدة النثر، ولسنا نزعم أن هذه التشكيلات نوع من أنواع النثر الشعري، بل هي قصائد شعرية، لا نتردد في إدخالها في حدائق الشعر الغنائي. إنها تقطر (غنائية)، كأنها جداول الماء؛ ومهما يلح على وجهها من عكر أو كدر فلا تملك نفسك من أن تشرب منها شراباً سائغاً بعد أن تزيل بيديك الكدر عن وجهها.

وإذن فهذه التشكيلات لا خلاف في أنها قصائد غنائية ذات إيقاع نغمي غنائي وذات بنية غنائية.

* إن حسّ أمينة وشدة إيمانها وحبها للتغيير جعل إحساسها يقرب من (الكلمة الفعل) لشدة صدقها، وجعل بنيتها تجري كالماء الصافي، وتتلألأ كالجوهرة البسيطة من هنا نرى شعرها أبعد ما يكون عن الوصف التقريري البارد الباهت، بل جعلته ماءً وناراً صافياً  مشتعلاً.

وإلا فمن منا يستطيع أن يرتد عن قراءة مثل هذا الشعر الذي يتخذ البساطة التعبيرية وصورها منهجاً؟ إنها الحقيقة الجميلة في ثوبها البسيط الأنيق؟

– أيها الوطن الضائع!

أبكي

الوطن ليس بكاء.

أجفف الدموع

وأبدأ الدموع

وأبدأ العمل

هذا المفهوم

مفهوم العمل، مفهوم الفعل!

ومن منا يستطيع أن يرتد عن قراءة مثل هذا الشعر (يوم موت الأم):

– لم أعد أرى أمي نائمة

لم لا تستيقظ!؟

تقول الطفلة، وهي تبكي

هذه الحقيقة الحسناء في هذه الثياب البسيطة الأنيقة تشد القارئ دون أن ينصرف إلى طول الثوب وقصره أو إلى عدد طياته وثنياته، أقول هذا وأنا على وعي بأن الشعر ليس هو الثوب.

تدفنوني حياً.. أنتشر في الأرض!!

تقطعون يدي.. تنبت لي أياد!!

– في مدينة ( أ ) يرتدون السواد

في مدينة ( ب ) يرتدون السواد

حرب ( قابيل وهابيل )

وحين احتلّ العدو المدينة

لم يكن أحد هناك!!

ومدينتها تختلف اختلافاً كبيراً عن مدن الشعراء، إنها ليست كمدينة نجيب سرور، إنها ليست كمدينة عبد المعطي حجازي، أو كالمدن التي عهدناها في شعر الشعراء، إنها ليست المدينة التي تقابل القرية أو الريف، وتثير الدهشة والوحشة لدى الشاعر القادم من مجتمع الريف البسيط الساذج.

مدينة أمينة إشارة إلى الواقع العربي الاجتماعي الذي يحاصرها إلى حد يقرب من الاختناق. إنها الواقع الإداري التنظيمي المختل الذي يعمل على إيذاء مواطنيه؛ إنها الواقع السياسي والاقتصادي المختل. إنها الواقع المحلي المرفوض حالياً لديها والواقع العربي المفكك الذي كثيراً ما يصيبها بالغثيان:

لا نريد رؤوساً

اقطعوها

قطعوها بالسيف

وأصبحت المدينة

سماء ساكنة.. قمراً ساكناً

واختفت الرؤوس!

وتمتد رؤيتها للمدينة، وللواقع العربي، وتحدد فيها موقعها، وتطلق مواقفها، وتركز زاوية رؤيتها، وتكشف عن بصيرة وإدراك لشبكة العلاقات محلياً وعربياً:

بحر بدون أمواج

أسماك بدون أنهار

وعصافير بدون أجنحة

وطيور بدون أصوات

وعاصفة بدون مطر

ذئاب تأكل

 وأسماك.. وطيور.. وعصافير تموت.

والمدينة هاجس أمينة في كل الدواوين، يستطيع الدارس أن يستخلص معجمها الشعري في المدينة، وصورها الشعرية وأنماط هذه الصور في المدينة، ورؤيتها وموقعها وموقفها من المدينة، وبنية القصيدة الغنائية في المدينة:

أن تحيا في هذي المدن

كل بضعة أعوام – تختفي مدينة

المقاتل يعمل على أن يعود

والمواطن لا يعلم أن العدو

يحلم بمدن أخرى لم تأتِ بعد

لا يوجد أي أمل أن يصبح المواطن مقاتلاً

إن حربه للعدو – حرف في جريدة

عين المقاتل ترى وتطرد النوم.

إنها تطارد أشباح المدينة، وأشباح المدينة تطاردها:

غادر السكان المدينة

ليحموا أنفسهم من عاصفة مقبلة

يعتقدون أنهم يخلفونها وراءهم

تحاصرهم المدينة في الظلمة

مخلوقات لم تعد ترى

ظلال سوداء خلف سماء أرجوانية

وآثار أقدام حافية على الطريق.

* ومع هذا المطر الرمادي، والظلال السود، والإحساس بالحصار فأمينة قادرة على أن تُسمع الناس أنباء الأمور الصحائح:

أن نخسر

وأن نلحق خسائر بالعدو أكبر

فنحن لن نخسر أبداً.

ومع هذه الخسارة ترى وجه الربح:

العلم الفلسطيني على رؤوس المنازل

جندي العدو يطوف بجرافة

إنه يقتلع الجذور

 والسكان يزرعونها

* إن أمينة تدرك المشوار الطويل في مدن الشعر، وتدرك محطات السير.

قلت، وأنا أكتب أول قصيدة

سأتعلم أن أسير خطوة

وأتعثر خطوة

إلى أن أتقن خطواتي

وأتعلم أن أسير سيراً صحيحاً

ومع  (عبثية الحياة) التي تلازم شبكة الحياة في المدينة التي تحيط بها، نراها تغني:

للمحاربين أغنّي.. للمحاربين أنشد

وأهدي شمساً للقادمين إلى المستقبل.

ثم هي مع ذلك ترى الحياة في الموت:

لماذا قتل الفلسطيني في عام 1948؟

قلت له:

لا تذهب.. سيقتلك اليهود!!

ذهب ولم يعد.

قتلوه برصاصة على الجسر

ولم يمت في المنفى!!

كل قضايا الإنسان العربي والمواطن الصالح وغير الصالح تشكل نسيجها الشعري، فليس هناك من قضية مصيرية تفلت من زاوية رؤيتها. وقد اتخذت ما يشبه الإيغراما – Epigrama في الشعر اليوناني والشعر اللاتيني، وهي الأشواك التي يخز بها الشاعر جسد مجتمعه، وقد أبدع في هذا الباب مجموعة من الأشواك الدكتور طه حسين، فأدهش الناس بمجموعته:

(جنة الشوك)؛ ثم ها هي أمينة تجيئنا بأشواكها الشعرية لتستثير ولتخز جسم الواقع العربي الذي استسلم للعبثية وللتمزق وللأحقاد وللخصومات واللامعقول:

أذهب إلى ملعب رياضي

بربطة عنق

وأصبح رياضياً!!

أذهب إلى العمل

بحقيبة فارغة

وأصبح عاملاً

أذهب إلى قاعة مكتبة

بمايكروفون

وأصبح مثقفاً

أذهب إلى عدوي

بغصن زيتون

وأصبح بطلاً

أذهب إلى صديقي

بسيف

وأصبح محارباً

أذهب إلى الوطن

بكاميرا سائح

وأصبح

مواطناً صالحاً

*وأمينة، بأقل قدر من الكلمات، تنسج نسجيها الشعري، وتأتي أشواكها بما قلّ ودلّ؛ وحين تصور بشاعة التمزق والطائفية تعمد إلى الكلمة ونقيضها:

أمسك الأخ الأول بندقية وقال: عيناه خضراوان

أمسك الأخ الثاني بندقية وقال: عيناه سوداوان.

شعره أشقر – شعره أسود – وجهه أبيض – وجهه أسود

مسلم – مسيحي – ماروني – قبطي – شيعي – سني – فلسطيني – يهودي – فلسطيني – يهودي.

رصاص – رصاص – رصاص – رصاص.

ومع هذا كله فأمينة ترى بقلم الضوء التي تتفجر في هذا الواقع البغيض:

ألقي الحجارة.. أقاوم المحتلّ – اليد والحجارة تعيد الوطن الذي ضاع

هذه الأشواك تكشف عن ألم ومرارة من واقع تقف على شطآنه شاهدة وقد أمسكوا بيديها قيدوا خطوها ومنعوها من المشاركة في إحداث التغيير إلى الأحسن؛ ومن هنا كانت أشواكها في وجه النفاق:

أرتدي قناعاً في اليوم

التف الناس من حوله

وارتدى قناعاً في اليوم الثاني

التف الناس من حوله أكثر

ارتدى قناعاً في اليوم الثالث

التف الناس من حوله أكثر فأكثر

وحين خلع القناع في اليوم الرابع

بقي وحده

ولم يعد يرى وجهه

فقد أصبح قناعاً!!

وتتوالى الأشواك، وتتنفّض في الوجوه:

العامل أصبح بدون معول

والمزارع أصبح بدون فأس

والمغني أصبح بدون غناء

كل يوم لا يسدل الستار

الشوارع خالية

والمسرح مليء!!

وترى كيف يفترس الغزو الجشع جميع المواطنين:

الأب افترس ابنه

الابن افترس أباه

الجار افترس جاره

والقريب افترس القريب

لا أحد يقترب من الغريب

الغريب جائع

افترس الجميع!!

وأمينة بأشواكها قادرة على اختراق (العدم) وعبثية الحياة المختلة:

1- رجل يقف تحت المطر بدون مظلة

2- امرأة ترى الوقت في ساعة توقفت عقاربها

3- عصافير في بيوت خلت من السكان

4- موسيقيّ يعزف لرجل أصمّ!!

وقد تمثل لأمينة الشيء ونقيضه في شبكة العلاقات الاجتماعية المشتملة على واقع كريه:

يقود الأحرار وهو عبد

ينصب المحاكم وهو متهم

المفاتيح ضائعة.. الأبواب مغلقة

تختلط الأدوار.. يتساوى كل شيء

أبيح الظلم.. ومُنع العدل.. والمجرم بُرّئ

والبريء مجرم.. والعدالة خوذة.. والحلم كابوس

الضوء ظلمه.. البرد شديد

والمعطف لم يعد يدثر أحداً

الزهور تُلقى إلى الشارع

القبح شديد

والطلاء لم يعد يخفي وجه أحد!!

حتى إذا صادف أن جاءتها لحظات سكت فيها الغضب عن أمينة عرضت للأمور الصحاح في نظرها، وجنحت إلى لغة وصور أهدأ:

تحلم بالحياة.. هي شابة

تحلم بالموت.. هي عجوز

حتى اليأس جاء في صورة حقيقة ثابتة:

ألقى الصحون المليئة بالطعام

وكأنه يلقي حياته

التي أصبحت نفاية

في القمامة!!

وموتاهم الأحياء الذين يموتون قبل أن يدركهم الموت:

الجبناء يخافون من الموت

البشر يموتون: من يخاف ومن لم يخف

ولكن..

هم موتى قبل أن يأتي الموت!!

ثم هي برؤيتها البصيرة ترى سبب الظلمة:

سيكفي الكائنات

أن تسير نحو الظلمة

حتى لا تعود ترى!

ولعل في هذه المقتطفات ما يشير إلى طريقتها في تشكيلها لقصيدتها الغنائية (الليريكية).

*من أجل هذا كله قلت في شعرها سابقاً، وما زلت أقول: لقد استطاعت أمينة العدوان أن تثير قدراتنا على (المحاورة) على مدى واسع، وقد أخذت تغذّ السير نحو ساحة المواجهة، ونحو أحداث المواجهة، ونحو وقائع المواجهة، ونحو حياة المواجهة، وبذلك كان لها فضل التوجه ومحاولة الاقتراب بغرض الاشتباك:

أخذوا السقف.. السرير.. الغطاء!!

– اذهب وعد بها!!

-ولكنكم أخذتم الأجنحة!

-حلّق بدون أجنحة!!

هذه الشاعرة

بقلم: محمد الظاهر

أمينة العدوان

تدرك كما أدرك بودلير من قبل

“أنه ينبغي إرادة الحلم ومعرفة الحلم

لأن استرجاع الوحي فن سحري

والمباشرة بالكتابة أعظم من المحاكمة

وأن أي عمل مباشر أفضل من حلم اليقظة

وأن سلسلة إرادات صغيرة

تعطي نتيجة ضخمة”

والنتيجة التي تعمل أمينة العدوان على إنجازها

هي الأيام الجميلة القادمة

وإذا كان لدى أجمل أيام ناظم حكمت

“ثلاثة رجال ملعونون

هو دائب الحفر على زجاج

نوافذ ذكرياته هنا وهناك بأظافره

خشية عدم التعرف على رجال أجمل أيامه الملعونين الثلاثة”

فإننا أيضاً بحاجة إلى متابعة عملية الحفر التي بدأها ناظم حكمت، مع أمينة العدوان

فلدى أجمل أيامنا

ملايين من الرجال الملعونين

الذين يسدون مسامات أجسادنا كالبثور القديمة

ويحاصرون دماءنا

ويعششون كالعناكب على سطوح ذكرياتنا

هذا الكتاب إذن

محاولة جادة للحفر في الذاكرة

لمحاصرة الرجال الملعونين

أمام الحاجز

عرض ونقد علي البتيري

*أمينة العدوان كاتبة جريئة ملتزمة لا تعرف مهادنة الواقع ولا تعترف بالانسجام مع اللغة الجاهزة أو حركة التاريخ المغلوطة، إنها تقيم علاقتها الجدلية التي لا تخلو من التحرش والتخطي إزاء اللغة الموروثة من جهة وإزاء المعطيات التاريخية الجامدة حيناً والمفجعة حيناً آخر.

لقد عرف القارئ أمينة العدوان ناقدة وقاصة وكاتبة خاطرة أدبية، وأخيراً شاعرة تكتب قصيدة النثر وتجهد نفسها في هذا المضمار الجديد المتحرر من قيود الكتابة الإبداعية وأنماطها اللغوية السائدة.

لن أقف أمام الحاجز الشعري الذي كشفت عنه تجربة أمينة العدوان الجديدة لأزعم بأنني مقدم على اكتشاف موهبة شعرية فذة ورائدة كما يفعل المجاملون (النقديون)، وإنما أجد نفسي بعد قراءة القصائد راغباً في القول بأن هذه المحطات الشعرية التي لم يجد فيها القارئ مكاناً للاستراحة أو التقاط الأنفاس، لم تكن سوى محطات قلق فني فائض بتوتر المشاعر واحتراق الأعصاب، فالقصيدة هنا موقف مزدان بكل ما يبهر من الأفكار والمشاعر التي تعمد إلى  (إضرام النار في هشيم اللغة) المستعصية على التعبير والإفصاح عن الرصيد الهائل المختزن من هواجس الفزع والخوف والقلق الدائم على الحاضر والمستقبل، ونعني به رصيد الهم الجماعي المتكدس والمتراكم في دخيلة الذات المندغمة بواقع الجماعة المأزوم.

تعددت أمكنة الحرائق

نراقب المحرقة

جسوا نبض الجموع

الجرس يقرع عالياً

هرعوا وأخمدوا الرنين

إن طبيعة هذه القصائد المتسمة بالتلميح الخاطف والإيماء الذكي إلى خلفيات الواقع المشتعلة كافية لأن تستوقفنا وأن تلقي بلهجتها الوطنية والقومية بذات الأسئلة والقضايا، فالكاتبة في مجموعة قصائدها النثرية هذه لا تكتفي بأن تكون شاهدة عصر على تمزق الأشياء وسقوط الأحلام والقيم المنشودة، وإنما تحرص على أن تقيم بينها وبين محيط الموت واليأس والتردي علاقة جدلية تتخذ من تضاد المواقف الحياتية وتصارعها خامة شعرية لا تنضب أو تخبو جذوتها، إلا أن تعاملها اللغوي السهل في بعض الأحيان وتخليها عن روح التمرد اللغوي لدى التصدي لخصوصيات الواقع البالغ التعقيد أفضيا بها – كما رأيت – إلا إحدى حالتين شعريتين: التقحم الانفعالي العفوي لطبيعة الموقف الشعري المتداخل والمركب حيث أفرز لنا هذا التقحم الشعوري خاطرة شعرية رومانسية تجمع بين بساطة التعبير والتصوير من ناحية وبين قصدية التأثير في مشاعرنا من ناحية أخرى. هذه إحدى الحالتين.. أما الحالة الثانية فتتمثل في الارتداء القسري إلى خارج الموقف الشعري، حيث تكتفي شاعرتنا بالطواف حوله بلغة أليفة لا تقوم على تجاوز للعادي المطروح أو استكشاف جديد لعوالم تعبيرية مجهولة يمكن أن تشتل في الوجدان والذهن غراس الدهشة والانبهار، ولا يفوتني أن أشير إلى أن الحالتين اللتين أسلفت ذكرهما لا تنسحبان إلا على قصائد قليلة من الديوان، وأحياناً تظهر في مقطع دون غيره من القصيدة الواحدة: حرب لبنان.

ينظر إلى صور أولاده السبعة

كانوا أحياء أمس

ينظر إلى صور الأوده الأسبعة

اليوم لم يبق منهم

سوى صور

ينظر إلى صور أولاده السبعة

ينظر إلى فراغ

يجدر بي أن أشير إلى أن هناك قصائد مكتنزة ومعافاة حققت فيها أمينة العدوان تفوقاً شعرياً وسجلت من خلالها حضوراً فنياً مؤتلقاً وفعالاً عكس بخصوصية وتميز التزامها الواضح والصادق بقضايا الوطن والأمة، بكل تبعاتها وتقلباتها وأعبائها الثقيلة، فنحن في قصائد “أمام الحاجز” نستقبل تجربة كاتبة تقف بالتزام شديد على قمة الوعي لتلقي علينا بجمر الكلمات المقتضبة.. تزاوج بين حرارة الصدق وحرارة التعبير، وتعيش عذاب فلسطين وشعبها في خروجه الأندلسي الجديد، وتجد في كل قصيدة جديدة تكتبها محاولة انعتاق لا محدود من دائرة الصمت والسكون التاريخي الجاثم على صدر القضية.

كل يوم أسير في مخيم صبرا

كل يوم أزرع الزهور على قبر ابني

على جدران منزل قتلوه

أمسكت رأسه المهشم بيدي

خطوط الدماء تغطي الحائط

لا أغسلها.. لا أزيلها..

أمر بأصابعي عليها.. ببطء

بخشوع

وكأنني أصلي

وكأنني أزرع مكاناً مقدساً

بقي أن أشير إلى سمة بارزة غلبت على القصائد وقل ما نجدها في قصائد هذه المرحلة الزمنية اليائسة من تاريخ أمتنا.. وهذه السمة هي التفاؤل المستمد من روح التصدي لواقع اليأس والحزن والاندحار. إن تفاؤل أمينة العدوان لا ينبع من ميل ظاهري إلى الوعي التاريخي لحركة العصر ولطبيعة نضال الشعوب المكافحة التي طالما رفعت رايات انتصارها على أنقاض البيوت وشواهد القبور.. فعلى الرغم من رائحة الجثث المنتشرة في الجو العربي وعلى الرغم من تلطيخ الأفق المنظور بلون الفحم والقار الأسود تقيم الشاعرة عالمها الشعري المتفاعل من إرادة الكفاح وجذوته التي لا تنطفئ معلنة عن أغنية النصر في زمن الهزيمة:

تركت الكتاب.. حملت بندقية

ثلاث شظايا في يدي

أغلقت عيون القتلى

خرجت إلى الشارع

وبدأت أغني

إن من يفتح كتاب “أمام الحاجز” يضع بين يدي القارئ قصائد نثرية جديرة بأن تقرأ، وأني لأرجو أن يجد القارئ في هذه اللوحات الشعرية ما يجذبه ويشده إلى مجموعة الألوان والظلام والرموز التي تهجس بالأسمى والأعمق والأجمل.

وقفة مع كتاب أمينة العدوان

 (أمام الحاجز)

لا أريد أن تكون كلمتي عن كتابات أمينة العدوان مجالاً للخوض في الشكل الفني، فما بين أيدينا ليس شعراً ولكنه نمط أدبي يشبه الشعر، فيه من الصور الشعرية ما يذهل ويصعق ويدعو للتوقف عنده لحظات للتأمل.

وفيه من التوهج والحرارة والانتماء المحترق إلى هذا الوطن المحترق، الشيء الكثير. إن أمينة العدوان في كتاباتها الأخيرة وخاصة هذه التي ظهرت بعد حرب الإبادة الصهيونية في لبنان هي فنانة حقاً تحترق من الداخل فتخرج كتاباتها هذه دخاناً لا يؤكد الحرائق فحسب ولكنه يؤكد معايشة الكاتبة لقضايا وطنها وأمتها المدمرة المهانة.

بعض مقاطع هذه الكتابات كانت مجرد كوابيس مرعبة وهل الواقع العربي الراهن أكثر من كوابيس يعجز العقل السليم عن استيعابها والاحتفاظ بتوازنه في الوقت نفسه.

رجل يلقي أباه إلى العراء

مقاتلون يحملون البنادق أمام مروج خضراء

امرأة تحمل المزمار، تقيم في المتاريس المجاورة

خلع خوذة المواطن وارتدى خوذة الأعداء

بنادق الأعداء تحاصر أضرحة الشهداء

مصلون يسيرون نحو المعابد النائية

رجل يحمل ابنه المقتول

ويشير بقبضته مهدداً

طفلة تركض ودمعة طريدة على خدها

هذا المشهد شبه السريالي لا يختلف كثيراً عما يحدث في الراهن العربي، حين كانت بيروت تحاصر ومخيمات اللاجئين في جنوب لبنان تتعرض للذبح والسلب وانتهاك الأعراض وعملاء إسرائيل في لبنان يخلعون خوذ المواطنين ويرتدون خوذ الأعداء. وآبار النفط كانت ما تزال تتدفق لتملأ مخازن الطائرات والدبابات التي تذبح الطفولة والحياة والحضارة في لبنان.

كتابات أمينة العدوان في  “أمام الحاجز” ليست مجرد كوابيس تفضح عفونة الواقع العربي ولا معقوليته ولكنها كذلك صرخة تتدفق غضباً ولوعة واحتراقاً. إنها دموع الثكالى في صبرا وشاتيلا ودماء الأطفال الذين ذبحوا وظلت دماؤهم على الحيطان لا تغسلها الدموع ولا الجرافات ولا المقابر الجماعية. إنها الفجيعة التي ظلت تحوم في أزقة صبرا وشاتيلا. عويل النساء وصراخ الأرامل واستغاثة الطفولة وهي تذبح ببلطات الجلادين الصهاينة وأعوانهم ممن لبسوا خوذات الأعداء

كل يوم أسير في مخيم صبرا

كل يوم أزرع الزهور

على قبر ابني

…..

على جدار منزله قتلوه

أمسكت رأسه المهشم بيدي

خطوط الدماء تغطي الحائط

لا أغسلها

لا أزيلها

*********

هذه دماء ابني

كل يوم أمسح دمعة لا تجف

كل يوم لا أنسى لا أغفر..

كل يوم أرى وجه القتيل

تلك هي الصور التي تقدمها أمينة العدوان في كتابات “أمام الحاجز” إنها الحزن اليومي الذي يرفرف فوق هذا الوطن ويظل يمتد من دموع بقايا المذبوحين في لبنان إلى دماء من يذبحون كل يوم في الخليل والبقاع وسائر أنحاء هذا الوجع العربي الكبير!

خليل السواحري

عمان

أمينة العدوان (كاتبة وناقدة)

أصدرت أمينة العدوان جملة دراسات نقدية وكتابات إبداعية، هي “محدودات بلا حدود” و “مقالات في الرواية العربية المعاصرة” و “دراسات في الأدب الأردني المعاصر” و “وطن بلا أسوار” و “أمام الحاجز”. النبرة تتغاير بين نص وآخر، لكن ثمة جداً خلاقاً تبذله على مستوى الشكل والفضاء الدلالي. وعندما وقعت على “وطن بلا أسوار” – مقدمة بقلم هاشم باغي – حاولت استشفاف خصوصياتها، لأن كتابتها ليست شعرية هنا، ولا نثرية، بقدر ما هي المزاوجة بين مستويات متعددة من الشعر والنثر، المقطوعات تتواتر في سياق تجربة وامضة، مكثفة، ساطعة، كلغة الأساطير، وكحصار الكوابيس. تقول: “أعمل في الربيع، أحس إنني سأزهر كوردة، وأنه سيصبح لي لون ورائحة في الربيع”… (ص 13).

أمينة العدوان تلامس أحياناً عالم رامبو التعبيري والتصويري، على الرغم من الانفعال الذي يتفجر، وسورات الغضب الذي يتشظى، إنها تلامس أيضاً “الصدع البودليري” الشهير، أو رماد اليوت حيث رؤى حادة وساحرة: “حينما منعوا الأناشيد الوطنية/ رسمت عباءة، كوفية، عقالاً / رسمت مقالاً، سيفاً، حصاناً للمحاربين أغني / للمحاربين أنشد / وأهدي شمساً للقادمين إلى المستقبل”.

الكاتبة تبشر بالمصير الجديد، ولا نعرف بالتالي إذا كانت خارجة من فوهة اليأس أم من فوهة البندقية. لكنها، في أي حال، تقرأ الواقع، ولا تقترب منه مباشرة، بل تنقله إلى الأذهان. تشوهه وتعريه، مولدة من القبح شرارات السمو والنبل، ولا تتردد في الإيغال إلى النفس وتعقيداتها. وتزاوج بين الحسد النيتشوي واللمحة البودليرية واللحظة البرغسونية، محاذرة السقوط في اليأس. ولا شك في أنها تصف سيكولوجية الخوف، وسيكولوجية اليأس، لكنها لا تغرق فيهما، مراهنة على الفرح الذي تقوله باللغة الجديدة التي تصور التمرد والهروب من الحماقة. وتلوّح بحقيبة ملأى بالاغتراب، وبالأمل في اللقاءات على الضفة الأخرى من النهر، حيث يولد المستقبل.. في حتمية الانتصار والانبعاث: يرعى أولاده يركضون يصرخون/ يرى أن الحياة لا تموت / نهر يستمر في جريانه… (ص 60).

إنها المدينة تحيط بها الأسوار العالية.. امرأة تقاوم في غير المصير الذي رسم لها، وتعاند اللحظات الطويلة، وشريط الأحزان التي لا تنتهي.. غير أنها في النهاية ترتدي سترة واقية من.. الفشل، لأنها مدعوة إلى الانتصار الصعب، من دون أن تسدد الثمن الهائل للحياة.. الذي هو العيش داخل الغابة والغموض المصطنع..

فؤاد أبو منصور

وطن بلا أسوار:

نهار وممرات الكوابيس، باتجاه الحريق

بقلم: محمد القيسي

وطن بلا أسوار. هذه النفثات العميقة الأسيانة. هذا الكتاب البسيط لأمينة العدوان، الكاتبة الأردنية، يجيء في زمن بلا أسوار حقاً، وأرض بلا أسوار، وحياة مهددة من كل الجهات، ذلك أن زمن بيروت كشف إلى أي مدى نحن نتحرك تحت سماء مكشوفة. وأفق بلا حراس..

وقد صدر الكتاب أخيراً. فإذا هو يمتلك نكهة خاصة. ويستجيب لروح ونفسية وأجواء ما بعد الحرب. بعد هذا الدمار الذي لحق بنا جميعاً. ولعل في ذلك ما يدلل على صدق ومعاناة الكاتبة في رحلة تعاطيها هذا اللون الكتابي، الذي هو ليس أكثر من استجابة لحالات الانفعال وانثيالها وسط رماد العادي من الأيام، لتبعث الآن مثل هذا الشغف الأسيان في القراءة.

وطن بلا أسوار. كتاب يوازي الخوف والفراغ. يضم ما يقارب ستين مقطوعة نثرية، هي في الغالب سونات جارحة أو طعينة. وقد تصل المقطوعة منه إلى سطرين، أو سبع كلمات، إلا أنها تحتشد بعوالم متكاملة من الإيحاءات والدلالات، عوالم يأسرها الفن.

فيضيء بها المعتم فينا، وفي الخارج. هكذا تأخذ الكلمات بهاءها ومعناها، حيث تدعونا إلى التحديق في الذات، وعناق العام والدموي. فلا حياد في الفن، تقول أمينة تحت عنوان”مسيرة”:

رجل مشلول قال:

اليوم

ستبدأ مسيرتنا

وانتهت المقطوعة، فأي أمل وعزم وإصرار تبثه مثل هذه الكلمات القليلة، لكن المشحونة بمصائر أجيال كثيرة، والمهمومة بضرورة البدء من جديد، رغم كل عوامل الإحباط، وما يعلق بالروح والبدن من ذبول وموت وخراب!

إن مقطوعات هذا الكتاب لتبدو للوهلة الأولى قصائد شعر حديثة، لكنها خارجة عن الإطار السائد. منفلتة باتجاه حريتها وطقسها ومناخها الخاص، باتجاه حريق الأشكال والصور الجاهزة، وما ألفناه طويلاً من قوالب ما زلنا نودعها المخاوف والأسرار وأوجاع الأشياء، تتجه لتقول حالتها وأعماقها، وما يشد الروح من حبال الأيام التي تخنق الوقت والفرح. هذه الروح التي يأخذها الغناء، يأخذها الفن، ليس إلى مقعد مريح، أو شرفة مظللة لكنها ينزعها من ياقتها لترى دمار الحب أو رماد القناعات. أعتقد مطمئناً، أن ذلك هو مهمة الكتابة في أي مناخ أو ظرف كان، دونما ضرورة للدخول في حوار مغلق، حول ما إذا كانت هذا الكتابة شعراً، أم نثراً، أو مما يسمى قصيدة نثر، فلا ينبغي أن نشغل البال والورق حول هذا، ما دامت الكتابة ليست هي الغاية والهدف في حد ذاتها، بل ما يمكن أن تكشف عنه هذه الكتابة من طاقات كامنة في الذات، أو ما تحركه فينا لنخطو أو نتساءل، أو يخضنا قلقها. وما من ضرورة أيضاً، أن نظل نلوك غبار الكلام وسقط النقاش، كلما نشرت قصيدة هنا تخلو من الوزن، فالوزن ليس هوية الشعر الوحيدة، ولا الطريق الممهد إلى الأعماق والروح والعذاب، فمن ذا الذي يستطيع أن يحدد الهوية أو الطريق، وكيف نقبض على مثل هذا الهواء الساحر، أو الغيمة التي لا تقف!

هكذا تخطف الكاتبة غناءها، أو تحدده إذ تقول تحت عنوان “غناء”:

للمحاربين أغني

للمحاربين أنشد

وأهدي شمساً

للقادمين إلى المستقبل

وكأنما الكاتبة كانت تقرأ صفحة ما يأتي من العتمة والخذلان، إذ كتبت تحت عنوان “ما زال نائماً” تقول:

منبه الساعة يرن

أغرق الطوفان من في المنزل

منبه الساعة يرن

حان أوان استيقاظه

وما زال

نائماً!!

تراه من يكون هذا الذي ما زال نائماً؟ رجل ما عادي؟ وماذا تعني هذه المفردات: الطوفان، المنزل، الساعة، الرنين، النوم؟ الكلمات والحروف بما شحنت به من دلالات ورموز تشكل كل ما يسربل هذه المساحة التي تتمدد في الكسل ما بين محيط التثاؤب وخليج الهمود، أليست هي همومنا هذه التي في الكلمات، أو ليس هو وجودنا الذي يهدده، أكثر من طوفان، وأكثر من زلزال طارئ وغير طارئ وكم نحتاج من رنين لنعي أي موت يحاصرنا؟!

إن أمينة العدوان تكثف تجربة العربي في هذا الزمن، إذ تحصر وجوده ما بين أربعة جدران ضيقة، تقول في “أقيم في زنزانة”:

حينما أحرقوا مسجداً

رسمت مآذن

رسمت الأقصى، رسمت القيامة..

حين متعوا الأناشيد الوطنية

رسمت عباءة، كوفية، عقالاً

رسمت مقاتلاً، سيفاً، حصاناً

رسمت ونظراتهم تلاحقني

رسمت وأقدامهم تلاحقني

أقاموا في بيتي

رسمت بيتاً

طردوني من مكتبي

رسمت مكتباً

طردوني إلى الشارع

طردني الشارع

أقيم في زنزانة

ولا أقيم في وطني

بل إنها تذهب إلى مناخ أكثر قتامة وقتلاً، إذ تصوره كالظامئ القادم من صحراء، وهو المحاط بكل أسباب وعوامل إلغاء هذا الظمأ. لكنه محكوم بالعطش، محكوم بالحلم والعذاب، حلم أن يصل إلى الماء، وحلم الخلاص، تقول:

أتى من الصحراء

سيموت عطشاً

أسقوه ماءً

نظروا إلى النهر

وقالوا:

لا يوجد ماء

إن نهار وممرات هذا الكتاب مليئة بالكوابيس، مليئة بقناطر القمع والمنع، وشارات المرور الحمراء، مليئة بكل ما يطعن الروح، ويفسد الهواء النقي، الحق الطبيعي للإنسان، من هنا تمتلئ كتابات أمينة العدوان بهذا النفس الذي يبدو في ظاهره سوداوياً وشديد الحلكة، لكن جوهره يشع بنفحة ونبرة عالية من التفاؤل، وبمزيد من الإصرار على تثبيت شرعية هذا الأمل، وهذه الحركة إذ يقول “محارب” ص 54:

أينما أسير

توقفني حواجز خشبية

قد تؤخرني

ولكن

لن توقفني عن المسير

بل هي تمضي إلى أبعد من ذلك، إذ تكشف بلغة الإيماء الوسائل الشيطانية التي يمارسها المتنفذون والمتسلطون في الأرض لصالح سيادة عناصر الشر التي تجهد في سعيها إلى تدمير الإنسان وتشويه الحياة بتحويلها إلى مؤسسات كبيرة للخوف والتخلف والصقيع، هكذا تطلق الكاتبة طيرها الكاشف، الذي يرى ويعرف، ثم يدلي بشهادته المليئة بالمرارة والقهر. تقول في “أعلام” ص 55:

أعطاه لساناً وسيفاً وقال له:

اقتله وهو يصلي

وقل للناس

لقد قتلته

لأنه لا يصلي

ولأنه أحرق

سجادة الصلاة

إن أمينة العدوان تبدو وحيدة في وطنها الذي بلا أسوار وحدة من يصرخ باتجاه الآخرين، ليقبلوا، ويعملوا على وأد وحدتها، وانتشالها من قرارة فراغ الأشياء من المعنى، حتى لا تظل لائبة في وحشتها، وحتى يشيدوا جميعاً أسوار الوطن القادم.

أمام الحاجز…

بقلم: يوسف أبو لوز

بعد الانتهاء من قراءة (أمام الحاجز) للشاعرة أمينة العدوان، لا أدري كيف رأيت أن الشعر بين يدي الشاعرة يمكن أن يوجد على هيئة حبة رمان، وما أن تكسر هذه الرمانة، حتى تتناثر الحبيبات اللامعة الحمراء، هنا، وهناك، فتمد الشاعرة أصابعها وتقوم بلملمة هذه الحبيبات أو إعادة ترتيبها عبر خيط من الحرير أسميه ذلك الحدس – والذي أعني به الشعر.

وفي كل هذا الغناء المتواصل نحن أمام حاجز، بل عدة حواجز ترتفع، وما من إمكانية لتجاوز هذه الحواجز أو القفز عنها أو هدمها، وأمام هذه الحقيقة ينسحق الشعر والشاعر، وتتمدد الغربة بكل معانيها، كما أن العالم يأخذ بالذبول حيث تمتد درب الألم، وتهدرانها الدم، وتتسع دائرة العتمة.

كل قصائد الديوان – تقريباً – موغلة في السوداوية والحزن والإحباط، ولكنها مع ذلك تسخر من جهامة العالم، وتهزأ من جبروت الواقع وتحجره، وموته المستمر، وهذه القصائد القصيرة لم تذهب بعيداً في الوصف والمرثاة، ولكنها سعت على نحو مطمئن إلى اختزال التجربة من خلال مفردات قليلة جداً، وكأن الاقتصاد بالمفردات هنا يتلاءم مع غياب الفرح أمام حاجز مترفع.

كأني بالشاعرة تلتقط قصيدتها بأقصى سرعة ممكنة، وبأقل مفردات معبرة بذلك عن حالة شعرية، وحالة إنسانية تومض في الأفق مع كل خراب يومي ومتواصل، إنه إيقاع الحياة السريع، والمختصر، فطائرة العدو لا تستغرق زمناً كبيراً لكي تقتل عشرة أشخاص في غرفة، والأرض تأخذ بالانكماش إلى أن تصير حجراً أو حفنة من رماد، أما الشعر فإنه دائماً ينبثق ويولد رغم كل هذا.

وأمينة العدوان تطل برأسها من النافذة، فتشم رائحة الهواء الملوث بغبار الحرب، أو تمشي في الشوارع فلا تجهد نفسها كثيراً في البحث عن القصيدة، إنها لا تنتظر اندلاع الشعر لكي يغطي التجربة، في قصيدة أمينة صدق، وهم فلسطيني، يجعلني أؤكد أن الخراب هو أكبر من الشعر، وأكبر من طاقة يدينا على التلاعب بالمفردات ومهما يكن فإن القصيدة يجب أن لا تكابر وتمد عنقها لكي تتطاول على التجربة، لتصبح أكبر من التجربة.

كثيرون.. أرادوا بطول القصائد وعرضها أن تكون قصائدهم أكبر من الحرب، وكثيرون أرادوا لقصائدهم أن تكون أجمل من الحديقة، وكثيرون أرادوا أن يكونوا أجمل من الصباح، ومع هذا فإن القرنفلة أحلى من قصيدة، وطفل واحد يقذف حجراً في وجه مدرعة إسرائيلية أحلى وأكثر بطولة وحماسة من كل الشعر العربي، أما الحرب فإنها أكبر من الشعر دائماً، ذلك أن الشعر ينبغي أن يقاتل في هذه الحرب ليكسبها ويسجل انتصاره على عدوه اليومي، كمهمة يؤديها الشاعر وتبرز من خلال الفن.

عبر هذه البساطة تقول أمينة تجربتها الشعرية من خلال تميز ظاهر، وسيطرة على هذا التميز في الكتابة، أما هذه الميزة الشعرية فهي آتية من (كيمياء المفردة) التي تدفع بالسياق، والجمل أن تتناسق وتترتب بشكل عفوي، وهكذا تلقط الشاعرة جملتها وتعمل على وضع هذه الجملة في نسق بسيط غير معقد، ففي قصيدة (أفق) بوسعي أن أعيد ترتيب الطور من جديد، بحيث لا يؤدي ذلك إلى أي خلل في القصيدة، وكأن الشاعرة تدعو الأشياء إلى أن تكتب نفسها بنفسها، كل شيء يجب أن يتكلم: الشجرة – الوردة – البحر – الأفق – كل شيء يجب أن يكتب الشعر:

المساء نائية، المقهى بجانب البحر

الشمس تختفي، السماء نائية

المقهى بجانب البحر، فرس يقوده سائس عجوز

فرس يقود سائس عجوز، الشمس تختفي

الجيل قطيع من الأغنام، الجيل قطيع من الأغنام

تتلاشى أصوات الذين يحصدون، بعيداً عن مجرى الماء

تتعالى أصوات الذين يزرعون

تتعالى أصوات الذين يحصدون

بعيداً عن مجرى الماء، تتعالى أصوات الذين يزرعون

بهذه الصورة البسيطة، يمكن أن تتجمع قصيدة أمينة، فهي لا تتحدث عن ضجيج يتعالى ممن يزرعون ويحصدون بعيداً عن مجرى الماء – ولكنها تسمعنا هذا الضجيج من خلال مفردات قليلة – تسمعنا أصوات المزارعين – وتسمعنا أصوات الحصادين، وبوسعنا في قصيدتها أن نشم رائحة البحر، ونسمع صوت انسياب الماء عبر لغة، أو بناء شعري مبسط فيه كثير من الإشارة، والإيماءة.

تلجأ الشاعرة إلى الإيماء كثيراً، والإيماء يتناسب مع قصائد الحالات الشعرية ذات المفردات القليلة، لأن المفردة الواحدة في هذا الحال، تكون محملة حتى الإشباع بمدلولها الذي يأتي ضمن السياق العام للقصيدة، ويحصل بين هذه المفردات المكتنزة بمداليل عدة ما يشبه التواصل الذي يشحنها بطاقات كبيرة، بحيث تطرح القصيدة بمجملها في النهاية عدة طروحات، ولا تدل قارئها على شيء محدد، بل تتركه في متاهة لكي يبحث هو بنفسه عن هذا الشيء الموجود آخر الأمر في القصيدة:

(تآكلت رؤوس الجبال

على السفوح

كل يعمل

ليسلم برأسه)..

أما في كثير من الأحوال، فإن الإيماء يصبح بمثابة قطرات الدم التي تقود إلى الجرح أو الأثر الذي يفضي إلى المكان، هكذا يصير للشعر أن يومئ، ويبشر ومع هذه الإيماءات الكثيرة يصير له أيضاً أن يعبئ، ويحرض، ويقوم الشعر بهذه المهمات الخطيرة لأنه من أكثر الفنون وصولاً إلى قرارة نفس الإنسان، وروحه حيث تتفاعل الهواجس هناك، وتتماوج كما لو أن حجراً يرى في الماء، وتتشابك أخيراً تلك الموجات، لينبثق السؤال الذي يقود إلى سلسلة من أسئلة، أما الأجوبة فإنها مجموعة التناقضات التي تفضح سيطرة العفن العام الذي يزداد ويتكاثر في الأمكنة:

(المطافئ تزيد من

اشتعال الحرائق

سيارات الإسعاف

تقتل المرضى

رجل الإنقاذ

يزيدون عدد الغرقى

القاضي يزيد

عدد القتلى

يطلق أحكاماً ملفقة

وتبرئ القتلة)

إن هذه القصائد هي عناوين رئيسية للبلاء الذين يعم الأرض، وهي محاولة جادة وجريئة لإزاحة الأقنعة، وكشف الوجوه بعد إزالة الطلاء ليظهر ما الذي يحدث في هذا الكرنفال الواسع – تقول في قصيدة (كرنفال):

(البرد شديد، والمعطف لم يعد، يدثر أحداً

والزهور تلقى إلى الشارع، القبح شديد

والطلاء لم يعد يخفي وجه أحد).

إن أداة أمينة أداة واحدة طيلة الديوان فهي تحمل قلماً أشبه بالمعول وهي لا تكتب ولكنها في كثير من الأحيان تهدم، وهي في هدمها للمألوف والسائد، ولما كانت بيروت من أجمل الأحلام العظيمة التي تحطمت في حياة العربي، وتبع ذلك مذبحة صبرا وشاتيلا، فإن هزة غير عادية كان من الممكن أن تنقل الشاعرة إلى جو مختلف آخر. وهذا ما حدث فعلاً، هنا، تترك الشاعرة نمطها المختصر الذي يختزل حالتها الشعرية في قصائد قصيرة لكي تكتب قصيدة طويلة بالنسبة إلى مجموعة القصائد في الديوان، ولكنها مع ذلك لا تنفصل عن الجو العام المسيطر على المجموعة:

(نردد الأمور تسير

من سيء إلى أسوأ

لم يتركك هؤلاء الثرثارون

تقتلين يا بيروت).

إن هذه الإدانة، والشهادة على موت مدينة – حلم، هو في الأساس امتداد لماضٍ هيأ إلى النتيجة (فالمقاول الذي يريد أن نقيم في الشارع) (يبني فنادق سياحية) (ولا يبني معملاً أو مصنعاً) والطبيب التاجر أما الساحة فإنها مليئة بالمتفرجين، كل هذا هيأ إلى المذبحة.. هيأ إلى ضياع بلد – هيأ إلى الانكسار، وكل ذلك تواطأ مع الشر تم خلسة، وتم بالمؤامرة.

بذلك ينبثق الشعر من ثياب النثر، بل إن النثر يقوم بإغراء اللغة ومراودتها لأن تخرج عن طورها، وتدخل في غير العادي عن طريق خراب الأمكنة والأشياء. صحيح أن هذه المجموعة مليئة بالتقريرية والمباشرة ولكن مع ذلك ينبثق الشعر الغامض الذي يومئ، ليعانق الإنسان ويعبر عن همومه بالدرجة الأساسية. هذا الشعر، فاكهة أو ضباب أو ضوء منتصر في طريق الشاعرة التي تدهشها ربما – أصغر الأشياء العادية، فتحمل شيئاً ما، تضعه في سلة من قصب، وفي الأخير ترتاح إلى مقعد أو شرفة، وتراجع يومها الذي انطوى في السواد، فإذ بها قد التقطت جملة مفيدة في واقع كل ما فيه غير مفيد وغير مجدٍ:

(بنينا غرفة زينكو

3×2 متر

نقيم 7 من عائلتي

في غرفة واحدة).

وفي قصيدة أخرى:

(ينظر إلى صور أولاده السبعة

كانوا أحياء أمس

ينظر إلى صور اليوم

لم يبق منهم سوى صور

ينظر إلى صور أولاده السبعة

ينظر إلى فراغ..

إلى فراغ – كل ما هو قائم، واللغة والموسيقى، ليست أهم الأشياء القائمة، إن موت طفلة بالقنابل العنقودية أهم من الشكل الذي يخنق الدمعة – ربما عن طريق هذه القناعة المتواضعة تسعى الشاعرة إلى هذا التجاوز الجريء والهدم في شكل قصيدة النثر الحديثة عبر مسارها الشعري في أعمالها منذ (وطن بلا أسوار) إلى ديوانها (أمام الحاجز) وهمها الأعظم من تقنية القصيدة هو التعبير عن حالة الإنسان في انسحاقه، وتدميره في الوقوف أمام حاجز يأخذ بالارتفاع دائماً.

إنه من حق الشاعر أن يجرب، وأن يسعى إلى آفاق نعمل على تميزه وخصوصيته، وهذه كتابة تهرب من المألوف وتكون لها أجنحة فضية كبيرة لكي تنطلق إلى الهواء.