أول ما استوقفني في هذه النصوص الملتهبة عنوانها (جلاجل غرب النهر) ، و الجلاجل هي الأمور العظيمة أو الأجراس الصغيرة ، أو جمع جلجلة و هي الصهيل الشديد ، و مهما كان المعنى المراد فجلاجل مفردة ذات إيقاع باطني يوحي بالرهبة و رنين الصوت الروحي ينسجم أيما انسجام مع دلالات النصوص.
و ليس بغريب عن أمينة العدوان أن تقدم لنا نصوصاً تفوح منها رائحة الدم العربي الطاهر و هو ينسفح على التراب المقدس، فلقد سبق لها أن أصدرت مجموعة أعمال أدبية تتمحور حول مرايا الجرح العربي الفلسطيني، و لا أكاد أرى قلماً مندغماً بوجع المقهورين و بقداسة الأرض و بسخونة الدمعة مثلما أجد في نصوص أمينة العدوان التي بدا قلمها مناضلاً عنيداً في وجه القبح الإنساني من أجل أن تنتصر الحرية و يتحرر الحق و تزدهر العدالة.
فنحن أمام ألبوم من الصور و اللقطات الحية من قلب الحدث الدرامي في فلسطين العروبة، و نحن أمام توثيق إيحائي مكاشف، و أمام خاطرة تفيض حرارة و جمراً سرياً و علنياً ، و أمام رؤى مشكلّة بكاميرا البصر و البصيرة … يجمع كل هذه النثائر خميرة شعرية هدفها المعنى الثاني و الثالث ، و مبنى عفوي مندلق بطبائع الماء ، لا أثر فيه لتجردي غامض أو ترميز مغلق.
فأمينة العدوان تهرّب الدلالة قبل أن تكتبها، و لقد وردت بعض النصوص كطلقات نارية و احتجاجية، و بعضها جاء تأملياً باعثاً على التحسر الأليم ، و بعضها الثالث ورد على هيئة صور و مشاهد تبوح بعمق الوجع بحيادية تاركة للقارئ قدراً كافياً من احترام ذكائه كي يتخذ انطباعه المعين بقدر ما يقرأ.
هذه النصوص رسائل أدبية موجزة مكثفة تقول في كلام قليل ما تعجز عنه خطابات المنابر و انفعالات المصورين، و يمكن بسهولة أن نقرأ هذه الرسائل كما لو أنها فيلم سينمائي يسجل بإيماءات الضوء و بإشارات الصوت تقويم الوضع الجارح لدى أطفال الانتفاضة الذين يصادر الصهاينة أحلامهم أولاً بأول دون أن يتركوا لأي برعم فرصة للتفتح و محاولة الحياة، لكأن الطفل المقدسي خلق ليحب الموت:-
” الدبابات تركض
من دام لا يبالي
يركض إليها”
هنا ثمة احتفالات مهيبة بالشهيد و بالدم و بالدمعة و بالشجرة المقطوعة و بالجدار المهدوم و بالكوفية، و بالنعوش، و بالحجارة، و مشاهد الموت بأشكاله المختلفة.
” ما زال يعود
إلى البيوت الموصدة
حاملاً الأبواب”
و يمكن أن نسمي هذه النصوص (أجندة الموت) هذه الأجندة التي تُعد وثائق أدبية مهمة مقدمة بإيحاء تاريخي و تشكيل سيكولوجي لتقول لا في وجه سارق النهار، و لتكون شهادات تعرّي ما تبقى على جسد المرحلة من أردية بالية مستهلكة.
أمينة العدوان في هذه النصوص تستأنف مسارها الأدبي بثقة عظيمة و مهارة عالية في جعل أجراس الألم ترن بشكل أعلى ليتاح للأصم أن يستمع جيداً و يعترف بحق الطير أن يبني عشه على شجرة آمنة و في طقس لا يصادر أهم ممتلكاته و هي الحياة و الحرية.