أمينة العدوان في إصدارين جديدن
الدكتور عبد الفتاح النجّار
الأديبة أمينة ماجد العدوان من مؤسسي رابطة الكتّاب الأردنيين، وشغلت عضو الهيئة الإدارية للرابطة، وهي عضو الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب.
وأزعم أنني أعرفها جيداً، فقد كنت أقرأ كل ما تصدر من نتناج قصيدة النثر، وتناولت شيئاً من نتاجها في دراستي الموسومة بـ “قصيدة النثر في الأردن من 1979 ـ 1992″، وقمت بمراجعة كتاب “أمينة العدوان في أعمالها الشعرية” الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1997، لمؤلفه الأديب الناقد الأستاذ محمد المشايخ، وهو دراسة رصينة قيمة تقع في 239 صفحة من القطع المتوسط.
وأمينة ناقدة ملتزمة، وكاتبة ملتزمة، وأديبة ملتزمة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.
وتعد هذه الأديبة من أبرز رائدات الأدب المعاصر في الأردن بخاصة، والوطن العربي بعامة، فقد بدأت إصدار نتاجها الأدبي منذ مطلع الستينات بكتاب فلسفي عنوانه “محدودات بلا حدود”، وظهر نتاجها النقدي في مطلع السبيعنات من خلال “مقالات في الرواية العربية المعاصرة” و “دراسات في الأدب الأردني المعاصر”، و “قراءات نقدية”، وقد أرّخت في إصداراتها النقدية المبكرة للحياة الأدبية الأردنية، وصدر لها ثمانية عشر عملاً أدبياً من قصيدة النثر، إذ تخصصت بهذا اللون من الكتابة ابتداء من عام 1982، فصدر لها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أول عمل من قصائد النثر بعنوان “وطن بلا أسوار”، وتواصل نتاجها من هذا اللون الأدبي الجديد بعد ذلك، فهي، إذاً، من جيل الثمانينيات من كتّاب قصيدة النثر في الأردن.
وقصيدة النثر لون أدبي جديد في الأدب العربي، ظهر بشكل رسمي في لبنان عام 1960، وهو يحمل من العناصر الشعرية أكثرها، أو كلها غير الوزن الذي تخلت عنه.
وتشكّل هذه القصيدة ظاهرة أدبية حديثة في الأردن. وقد قوبلت بالعداء، والرفض والمقاومة، في المرحلة التي سبقت العام 1979، مما جعل عدد الذين جرّبوها قليلاً جداً. أما نشرها ضمن مجموعة شعرية فقد اقتصر على اثنين: الأول عبد الله منصور الذي أعلن تجاربه، وهي تجارب ثلاث، تحمل اسم “قصيدة النثر” ضمنها ديوانه “مواويل للحب والحرب” الصادر في العام 1973. والثاني عز الدين المناصرة الذي لم يعلن تجربته كما فعل زميله عبد الله منصور، ولكنه قال مؤخراً إنه أول من جرّب كتابة قصيدة النثر في الأردن، مشيراً بذلك إلى قصيدة “مذكرات البحر الميت” الواردة في ديوانه “الخروج من البحر الميت الصادر في العام 1969، وهو مجموعة شعرية من الشعر الحرّ التفعيلي.
وجدير بالذكر أن التجارب المذكورة تجارب غير ناضجة، وهي مجرد تقليد لقصيدة النثر في لبنان عندما كانت في بدايتها.
ويمكن أن نعدّ الشاعرة الأردنية ثريا ملحس (1925 ـ 2013) رائدة لقصيدة النثر في الأردن، إذ أصدرت في العام 1967 ديواناً عنوانه “محاجر في الكهوف” تضمن عدداً من قصائد النثر، وكانت قد أصدرت قبل ذلك ديوانين من الشعر المنثور هما : “النشيد التائه” (1949)، و “قربان” (1952)، فإدا عددناهما قصيدة نثر، على رأي بعضهم، فإنّ ريادة ثريا ملحس لقصيدة النثر تكون مبكرة، علماً أن ثريا أصدرت دواوينها، وهي مقيمة في لبنان، ولم يكن لتجاربها في قصيدة ا لنثر أثر مباشر في المبدعين الأردنيين.
ومنذ العام 1979 أخذت ظاهرة قصيدة النثر بالانتشار في الأردن، وبخاص في عقد الثمانينات. وقد لجأ إلى كتابتها عدد غير قليل من الأدباء، ومنهم أمينة العدوان، وكان بعضهم ممن مارسوا كتابة الشعر الحرّ التفعيلي قبل ذلك، لكنهم عدّوا قصيدة النثر فضاءً آخر لإبداعهم.
وتكتب أمينة العدوان القصيدة القصيرة أو قصيدة الومضة التي تنحصر أحياناً في سطرين، أو ثلاثة، أو في عدد قليل من الأسطر، وهي لقطة من بضع كلمات، لكنها تعبّر تعبيراً مكثفاً عن حالات قصوى من القلق أو المعاناة، وهي قصيدة صورة يسيطر عليها شعور انفعالي ويطلق عليها اسم التوقيعة، وهي تتسم بالتكثيف، مما يهبها جملة شعرية متوترة، تتسم بالختام المفاجئ المدهش.
وسأقدم قراءة لعملين صدرا من قصائد النثر التي كتبتها أمينة، الأول عنوانه “السور المهدوم” وقد صدر عن دار أزمنة في عمان عام 2003، ويقع في مائة وعشر صفحات من القطع المتوسط، والثاني عنوانه “دخان أسود” صدر أيضاً عن دار أزمنة في عمّان عام 2004، ويقع في مائة واثنتي عشر صفحة من القطع المتوسط.
وتتمحور مضامين هذين العملين الأدبيين حول فلسطين وشعبها وكفاحها، ففي هذين العملين الأدبيين، شأنها شأن أعمالها السابقة، تعيش أمينة مع أهل فلسطين يوماً يوماً، مصورة حياتهم، وكفاحهم، ومقاومتهم، وبطولاتهم، ومعاناتهم، وما يرتكبه الإسرائيليون من جرائم بحقهم، فقصائدها سجل حافل بنضال الشعب الفلسطيني، ومقاومته، ومعاناته.
ويهيمن المضمون القومي على قصائد أمينة فلا تكاد القضية العربية المركزية تفارق قصائدها أبداً.
ومن المعلوم أنّ قصيدة النثر في التنظير الأساسي لها تخلو من المضمون إلا أن نتاج أمينة، وكثيراً من المحاولات الأخرى، وتحديداً في الأردن توافر فيها المضمون، وهذا ناتج بالتأكيد من مفهوم لم يتنازل عنه كثير من الشعراء في الأردن، بصفتهم أصحاب قضية، وبالتالي عوّضت أمينة، مثلها في ذلك مثل هذه التجارب، عوّضت عن الإيقاع الوزني بالمضمون الملتزم، وبالتالي نطرح هنا قضية جماهيرية قصيدة النثر، فالأصل في قصيدة النثر أنها كتبت لتقرأ بالعين، لا لتسمع، وبالتالي فهي تُتَلقى قراءةً لا سماعاً.
فبالنسبة لنصوص أمينة والشعراء الذين لم يتخلوا عن المضمون في قصيدة النثر أحسبُ أن هذه القصيدة استعادت جماهيريتها، صحيح أنها ستخسر هؤلاء المتلقين الذين لا يؤمنون بمفهوم للشعر خال من الوزن، لكنّ القارئ العربي في السنوات الأخيرة استطاع أن يدرّب نفسه على آليات تلقًّ أكثر نضجاً، وبالتالي أزعم أن قصائد أمينة تكتسب جماهيرية من خلال جمعها بين المضمون الواضح، والبناء النثري وهذه الشعرية ليست غريبة على القارئ العربي، كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، فمنذ مطلع القرن العشرين طرحت أعمال الريحاني من الشعر المنثور، ونتاجات جبران خليل جبران من النثر الشعري، ثم جاءت بعد ذلك في النصف الثاني من القرن العشرين نتاجات الشعر الحرّ غير الموزون، عند توفيق صايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، وقصائد النثر عند أدونيس، وأنسي الحاج، وسواهما.
وتتسم قصيدة أمينة فنياً بالإيجاز والكثافة، والإشعاع والتوهج، والصورة الفنية والإيحاء، والموسيقى الداخلية التي تتجلى في التكرار، وكلية التأثير وبساطة اللغة.
وأول سمة فنية لافتة في قصائد أمينة العدوان هي الإيجاز والكثافة وينسحب ذلك على نصوصها جميعها، فهي تقول المعنى الكثير في كلام قليل. وتسيطر على نصوصها الرسالة التي تريد أن تؤدّيها بنصوصها والتي تظهر في كل نص من هذه النصوص.
تقول أمينة بعنوان “الأسرى”:
فرسان غابوا
وفي السّاحة
خيول تنتظر
ويتجلى في هذا النص الإيجاز، والرمز، فهي ترمز للأسرى بالفرسان. والفارس عند العربي رمز للبطولة
وتقول أمينة بعنوان (شهداء):
لا مكان لي كي أجلس
شهيدٌ
يترك لي مقعده
ويظهر في هذا النص نوع من المفارقة فبينما تقول على لسان فلسطيني: لا مكان لي كي أجلس أي “بين الأحياء” ترى أن هنالك مكاناً له، للموت شهيداً.
وتقول أمينة بعنوان (جرحى):
في أنقاض كل بيتْ
في كلّ الطرق
كلماتُ جريح
تتردد
وتبيّن لنا أديبتنا أنه لا وطن سوى فلسطين، وتبين لنا أن ثمن تحرير هذا الوطن هو الدم، هو الشهداء الذين يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل تحرير وطنهم. تقول:
لا وطن إلا فلسطين
أسيرُ
بدمي
إليه
وتقول بعنوان “دماء”
دمُنا
أعلام
كثيرة
على المباني
وتوحي أمينة بأن الدم العربي وهو دم واحد قد أصبح دماء، والدم هو عنصر هوية، وجامع بين العرب وقد غدا مجموعة من الأعلام المختلفة الموزعة على سطوح المباني في بلدان الوطن العربي، فغدا عنصر افتراق بدل أن يكون عنصر وحدة.
وتشخّص أمينة الموت، وتوحي بحالة المخيم، وكيف أصبح الموت من قطانه ينام فيه بين الأحياء. تقول:
كان الموت
يتجول في المخيم
وينام بين الأحياء
ونجد في هذا النص استخداماً للرمز، فهي ترمز للشهداء بالزهور . تقول:
الكائنات أشلاء
وزهور كثيرة
تذبل
والطريق إلى الوطن، كما تؤمن به الكاتبة، يقودها الشهيد تقول:
الوطن نريد
أن نذهب إليه
والشهيد
يقودنا إلى الطريق
وتوحي أمينة بأنّ اليهود لا يراعون حرمة الأماكن المقدّسة، فيعتدون على أماكن العبادة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، ويحرمونهم من أداء شعائر العبادة، بل إنهم يحوّلون أماكن العبادة إلى ثكنات عسكرية. تقول بعنوان “حصار كنيسة المهد”:
اعتصمتُ في الكنيسة
سوف أقرعُ الجرس
وسوف يسمعه
وحده
الجندي
ويواجهنا في هذه القصيدة تكرار حرف (السين) في (الكنيسة)، و (سوف)، و (سوف) و (الجرس) و (يسمعه)، وتكرار كلمة (سوف) مما يصنع الإيقاع.
وتطرح أمينة نبوءة على أساس أن الشعر يتطلع إلى المستقبل فترى أنّ السور العنصري الواقي سوف يتصدع بعد مذبحة جنين، وأن الجماهير العربية سوف تهبّ لتطيح بهذا الجدار.
ولا تنسى أمينة الحواجز، فتبين المعاناة التي يعانيها الفلسطينيون على الحواجز في حياتهم اليومية، وكيف تضيع أعمارهم على هذه الحواجز، فتقول بعنوان (حواجز):
بين حاجز وحاجز
انتظار طويل
تأخر.. رحيل
ضياع الطرق
ايام ضائعة
وتؤمن أمينة بأن الشهيد هو الذي يصنع النصر والحرية، رامزةً إلى الحرية بالنهار، فالشهداء هم الذين يجلبون النهارات لحياة الأحياء تقول بعنوان (شهداء):
كل الشهداء
وإن ناموا
نوماً أبدياً
وحدهم من بقي
يوقظ النهار
وترمز أمينة إلى الفلسطينيين بالعدّائين الذين يطاردون اليهود المحتلين، فتقول بعنوان (حواجز)
يبني سوراً.. أسواراً
ويبقى مطارداً
خلفهُ
كثيرٌ
من العدّائين
هذه الأمثل غيضٌ من فيض، ولو كان الوقت يتسع لذكرت كثيراً من النماذج المشرقة، التي تؤكد انتماء أمينة إلى قومهها، وتؤكد التزامها الحر.
وبعد، فهذه أمينة العدوان، هذا الصوت الجريء المناضل الملتزم بالهموم الوطنية والقومية، المؤمن برسالة الأدب والذي ما فتئ ينقل هذه الرسالة في كل ما كتب، ويبثها في نصوصه كلها.
فتحية لأمينة كاتبة مبدعدة، متميزة، صاحبة موقف لا يتراجع عن الحق مهما تراجع غيرها، وإنني أدعو لقراءة نتاجها، ولقراءة قصيدة النثر بشكل عام، هذا اللوّن الأدبي الجديد الذي أصبح واقعاً لا يمكن تجاهله، وعلى من يهاجمون قصيدة النثر أن يتصالحوا معها، وأن يتذوّقوا جماليّاتها، وإلا انطبق عليهم قول بعضهم “الناس أعداء ما جهلوا”.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.