مع أمينة العدوان في شعرها : د. عبد الرحمن ياغي

د. عبد الرحمن ياغي

 

مع أمينة العدوان في شعرها

 

 الدكتور عبد الرحمن ياغي

 

 أمينة العدوان دوماً (غير راضية) عن واقع اجتماعي يلفها بعباءة ترفضها، بينما يلوح لها في الأفق وفي الحلم، وفي اليقظة وفي المنام واقع أفضل، واقع أجمل، واقع أكمل، واقع أنبل، واقع أعدل. وحين تقابل بين الواقعين تشتعل تمرداً.

أمينة العدوان (متوترة) كأن حبالاً تقيّد يديها وذراعيها وتكاد تمتد إلى قدميها، وكأنما استبدلت بذلك كله خاطراً حاداً، ونظراً مخترقاً، وطموحاً ممتداً، كأن أمينة تحس أن يداً تترصدها تمنعها من أن يكون لها دور في إحداث التغيير الذي يلوح لها قابلاً للتحقيق ثم لا يتحقق. وكأنما استعاضت عن فعل التحقيق بكلام التحقيق! ومن هنا ظلت الطاقة في داخلها محاصرة مضيقاً عليها لا تجد لها متنفساً. ولهذا حرصت أمينة على أن تخترق ببصرها الحصار لترى نافذة تطل منها على مستقبل أفضل.

هذه الحالات خلقت من أمينة شاعرة لتواجه بالشعر هذا الحصار أو هذا الواقع المؤذي.

أجل لقد خلقت منها شاعرة واستقرت بها في مملكة الشعر.
حاولت أن تطرق باب الدراسة الفلسفية في الستينات، ثم ارتدت إلى الشعر، بعد أن انجزت موضوعها: (محدودات بلا حدود).

وحاولت أن تطرق باب الدراسة الأدبية، في السبعينات، ثم ارتدت إلى الشعر، بعد أن أنجزت دراساتها: (دراسات في الأدب الأردني المعاصر) و (مقالات في الرواية العربية المعاصرة).

أمينة العدوان شاعرة:

رغم كل ما نعرفه من أصول النظام الصوتي للغتنا، ورغم كل ما نعرفه من أصول العلاقات النحوية، ورغم كل ما نعرفه من أصول الصرفيّة، ورغم كل ما نعرفه من أصول العلاقات العروضية، ورغم كل ما نعرفه من أصول العلاقات البيانية والبلاغية، ورغم كل هذه الأصول والثوابت في اللغة!

أمينة شاعرة مخالفة لكثيرمن تلك الأصول بل في شعرها، لكننا لا نملك إلا أن نتقبل شعرها، وننشد إلى شعرها، ونواصل الاتصال بشعرها، ولا نملك أن نخرجه من دائرة الشعر الموفق!

لا نغفر لها أخطاءها بل نتجاوز عنها. لكن ما الذي يجعلنا  نتقبل شعرها وشاعريتها؟ ما الذي يجعل هذه التشكيلات شعراً ممتعاً؟

لسنا نزعم أن مضامينها هي التي تجذبنا، على ما في هذه المضامين من رؤية صائبة معمقة، مكثفة حادة كحد السكين، ملونة كالفراشات، لا لغو فيها ولا هذر ولا تكثر.

ولسنا نزعم أن هذه التشكيلات أشبه بقصيدة النثر، ولسنا نزعم أن هذه التشكيلات وع من أنواع النثر الشعري، بل هي قصائد شعرية، لا نتردد في إدخالها في حدائق الشعر الغنائي. إنها تقطر (غنائية)، كأنها جداول الماء؛ ومهما يلح على وجهها من عكر أو كدر فلا تملك نفسك من أن تشرب منها شراباً سائغاً بعد أن تزيل بيديك الكدر عن وجهها.

وإذن فهذه التشكيلات لا خلاف في أنها قصائد غنائية ذات إيقاع نغمي غنائي وذات بنية غنائية.

إنّ حس أمينة وشدة إيمانها وحبها للتغيير جعل إحساسها يقرب من (الكلمة الفعل) لشدة صدقها، وجعل بنيتها تجري كالماء الصافي، وتتلألأ كالجوهرة البسيطة، من هنا نرى شعرها أبعد ما يكون عن الوصف التقريري البارد الباهت، بل جعلته ماءً وناراً صافياً مشتعلاً.

وإلا فمن منا يستطيع أن يرتد عن قراءة مثل هذا الشعر الذي يتخذ البساطة التعبيرية وصورها منهجاً؟ إنه الحقيقة الجملية في ثوبها البسيط الأنيق؟

ـ أيها الوطن الضائع!

أبكي

الوطن ليس بكاء

أجفف الدموع

وأبدأ العمل

هذا المفهوم

مفهوم العمل، مفهوم الفعل!

ومن منا يستطيع أن يرتد عن قراءة مثل هذا الشعر (يوم موت الأم):

ـ لم أعد أرى أمي نائمة

لم لا تستيقظ!؟

تقول الطفلة، وهي تبكي

هذه الحقيقة الحسناء في هذه الثياب البسيطة ا لأنيقة تشد القارئ دون أن ينصرف إلى طول الثوب وقصره أو إلى عدد طياته وثنياته، وأقول هذا وأنا على وعي بأن الشعر ليس هو الثوب.

تدفنوني حياً.. أنتشر في الأرض!!

تقطعون يدي .. تنبت لي أياد!!

ـ في مدينة (أ) يرتدون السواد

في مدينة (ب) يرتدون السواد

حرب (قابيل وهابيل)

وحين احتل العدو المدينة

لم يكن أحد هناك!!

ومدينتها تختلف اختلافاً كبيراً عن مدن الشعراء إنها ليست كمدينة نجيب سرور، إنها ليست كمدينة عبد المعطي حجازي، أو كالمدن التي عهدناها في شعر الشعراء، إنها ليست المدينة التي تقابل القرية أو الريف، وتثير الدهشة و الوحشة لدى الشاعر القادم من مجتمع الريف البسيط الساذج.

مدينة أمينة إشارة إلى الواقع العربي الاجتماعي الذي يحاصرها إلى حد يقترب من الاختناق. إنها الواقع الإداري التنظيمي المختل الذي يعمل على إيذاء مواطنيه؛ إنها الواقع السياسي والاقتصادي المختل. إنها الواقع المحلي المرفوض حالياً لديها والواقع العربي المفكك الذي كثيراً ما يصيبها بالغثيان:

لا نريد رؤوساً

اقطعوها

قطعوها بالسيف

وأصبحت المدينة

سماء ساكنة.. قمراً ساكناً

واختفت الرؤوس!

وتمتد رؤيتها للمدينة، وللواقع العربي، وتحدد فيها موقعها، وتطلق مواقفها، وتركز زاوية رؤيتها، وتكشف عن بصيرة وإدراك لشبكة العلاقات محلياً وعربياً:

بحر بدون أمواج

أسماك بدون أنهار

وعصافير بدون أجنحة

وطيور بدون أصوات

وعاصفة بدون مطر

ذئاب تأكل

وأسماك.. وطيور .. وعصافير تموت

والمدينة هاجس أمينة في كل الدواوين، يستطيع الدارس أن يستخلص معجمها الشعري في المدينة، وصورها الشعرية وأنماط هذه الصورة في المدينة، ورؤيتها وموقعها وموقفها من المدينة، وبنية القصيدة الغنائية في المدينة:

أن تحيا في هذا المدن

كل بضعة أعوام ـ تختفي مدينة

المقاتل يعمل على أن يعود

والمواطن لا يعلم أن العدو

يحلم بمدن أخرى لم تأتِ بعد

لا يوجد أي أمل أن يصبح المواطن مقاتلاً

إن حربه للعدو ـ حرف في جريدة

 

* * *

إنها تطارد أشباح المدينة، وأشباح المدينة تطاردها:

غادر السكان المدينة

ليحموا أنفسهم من عاصفة مقبلة

يعتقدون أنهم يخلفونها وراءهم

تحاصرهم المدينة في الظلمة

مخلوقات لم تعد ترى

ظلال سوداء خلف سماء أرجوانية

وآثار أقدام حافية على الطريق

 

ومع هذا المطر الرمادي، والظلال السود، والإحساس بالحصار فأمينة قادرة على أن تُسمع الناس أنباء الأمور الصحائح:

أن نخسر

وأن نلحق خسائر بالعدو أكبر

فنحن لن نخسر أبداً.

ومع هذه الخسارة ترى وجه الربح:

العلم الفلسطيني على رؤوس المنازل

جندي العدو يطوف بجرافة

إنه يقتلع الجذور

والسكان يزرعونها

إن أمينة تدرك المشوار الطويل في مدن الشعر، وتدرك محطات السير.

قلت، وأنا أكتب أول قصيدة

سأتعلم أن أسير خطوة

وأتعثر خطوة

إلى أن أتقن خطواتي

وأتعلم أن أسير سيراً صحيحاً

ومع (عبثية الحياة) التي تلازم شبكة الحياة في المدينة التي تحيط بها، نراها تغني:

للمحاربين أغنّي.. للمحاربين أنشد

وأهدي شمساً للقادمين إلى المستقبل.

ثم هي ممع ذلك ترى الحياة في الموت:

لماذا قتل الفلسطيني في عام 1948؟

قلت له:

لا تذهب .. سيقتلك اليهود!!

ذهب ولم يعد

قتلوه برصاصة على الجسر

ولم يمت في المنفى!!

كل قضايا الإنسان العربي والمواطن الصالح وغير الصالح تشكل نسيجها الشعري، فليس هناك من قضية مصيرية تفلت من زاوية رؤيتها. وقد اتخذت ما يشبه الإبيغراما ـ Epigrama في الشعر اليوناني والشعر اللاتيني، وهي الأشواك التي يخز بها الشاعر جسد مجتمعه، وقد أبدع في هذا الباب مجموعة من الأشواك الدكتور طه حسين، فأدهش الناس بمجموعته:

(جنة الشوك)؛ ثم ها هي أمينة تجيئنا بأشواكها الشعرية لتستثير ولتخز جسم الواقع العربي الذي استسلم للعبثية وللتمزق وللأحقاد وللخصومات واللامعقول:

أذهب إلى ملعب رياضي

بربطة عنق

وأصبح رياضياً!!

أذهب إلى ا لعمل

بحقيبة فارغة

وأصبح عاملاً

أذهب إلى قاعة مكتبة

بمايكروفون

واصبح مثقفاً

أذهب إلى عدوي

بغصن زيتون

وأصبح بطلاً

أذهب إلى صديقي

بسيف

وأصبح محارباً

أذهب إلى الوطن

بكاميرا سائح

وأصبح

مواطناً صالحاً

وأمينة، بأقل قدر من الكلمات، تنسج نسيجها الشعري، وتأتي أشواكها بما قلّ ودلّ؛ وحين تصور بشاعة التمزّق والطائفية تعمد إلى الكلمة ونقيضها:

أمسك الأخ الأول بندقية وقال: عيناه خضراوان

أمسك الأخ الثاني بندقية وقال : عيناه سوداوان

شعره أشقر ـ شعره أسود ـ وجهه أبيض ـ وجهه أسود

مسلم ـ مسيحي ـ ماروني ـ قبطي ـ شيعي

ـ سني ـ فلسطيني ـ يهودي ـ فلسطيني ـ يهودي

رصاص ـ رصاص  ـ رصاص

ومع هذا كله فأمينة ترى بقلك الضوء التي تنفجر في هذا الواقع البغيض:

ألقي الحجارة.. أقاوم المحتل ـ اليد والحجارة تعيد الوطن الذي ضاع هذه الأشواك تكشف عن ألم ومرارة من واقع تقف على شطآنه شاهدة وقد أ مسكوا بيديها قيدوا خطوها ومنعوها من المشاركة في إحداث التغيير إلى الأحسن؛ ومن هنا كانت أشواكها في وجه النفاق:

أرتدي قناعاً في اليوم

التف الناس من حوله

وارتدي قناعاً في اليوم الثاني

التف الناس من حوله أكثر

ارتدي قناعاً في اليوم الثالث

التف الناس من حوله أكثر فأكثر

وحين خلع القناع في اليوم الرابع

بقي وحده

ولم يعد يرى وجهه

فقد أصبح قناعاً!!

وتتوالى الأشواك، وتنتفض في الوجه:

العامل أصبح بدون معول

والمزارع أصبح بدون فأس

والمغني أصبح بدون غناء

كل يوم لا يسدل الستار

الشوارع خالية

والمسرح مليء!!

وترى كيف يفترس الغزو الجشع جميع المواطنين:

الأب افترس ابنه

الابن افترس أباه

الجار افترس جاره

والقريب افترس القريب

لا أحد يقترب من الغريب

الغريب جائع

افترس الجميع!!

وأمينة بأشواكها قادرة على اختراق (العدم) وعبثية الحياة المختلة:

  1. رجل يقف تحت المطر بدون مظلة
  2. امرأة ترى الوقت في ساعة توقفت عقاربها
  3. عصافير في بيوت خلت من السكان
  4. موسيقيّ يعزف لرجل أصم!!

وقد تمثل لأمينة الشيء ونقيضه في شبكة العلاقات الاجتماعية المشتملة على واقع كريه:

يقود الأحرار وهو عبد

ينصب المحاكم وهو متهم

المفاتيح ضائعة.. الأبواب مغلقة

تختلط الأدوار.. يتساوى كل شيء

أبيح للظلم.. ومُنع العدل.. والمجرم بُرّئ

والبريء مجرم.. والعدالة خوذة.. والحلم كابوس

الضوء ظلمة.. البرد شديد

والمعطف لم يعد يدثّر أحداً

الزهور تُلقى إلى الشارع

القح شديد

والطلاء لم يعد يخفي وجه أحد!!

حتى إذا صادف أن جاءتها لحظات سكت فيها الغضب عن أمينة عرضت للأمور الصحاح في نظرها، وجنحت إلى لغة وصور أهدأ:

تحلم بالحياة .. هي شابة

تحلم بالموت .. هي عجوز

حتى اليأس جاء في صورة حقيقية ثابتة:

ألقى الصحون المليئة بالطعام

وكأنه يلقي حياته

التي أصبحت نفاية

في القمامة!!

وموتاهم الأحياء الذي يموتون قبل أن يدركهم الموت:

الجبناء يخافون من الموت

البشر يموتون: من يخاف ومن لم يخف

ولكن

هم موتى قبل أن يأتي الموت!!

ثم هي برؤيتها البصيرة ترى سبب الظلمة:

سيكفي الكائنات أن تسير نحو الظلمة

حتى لا تعود ترى!

ولعل في هذه المقتطفات ما يشير إلى طريقتها في تشكيلها لقصيدتها الغنائية (الليريكية).

من أجل هذا كله قلت في شعرها سابقاً، وما زلت أقول: لقد استطاعت أمينة العدوان أن تثير قدراتنا على (المحاورة) على مدى واسع، وقد أخذت تغذّ السير نحو ساعة المواجهة، ونحو أحداث المواجهة، ونحو وقائع المواجهة، ونحو حياة المواجهة، وبذلك كان لها فضل التوجه ومحاولة الاقتراب بغرض الاشتباك:

أخذوا السقف .. السرير .. الغطاء!!

ـ اذهب وعد بها!!

ـ ولكنكم أخذتم الأجنحة!

ـ حلّق بدون أجنحة!!