ألغاز أمينة العدوان

رجاء أبو غزالة

تتفجر في العيون العربية النائمة

في ديوان أمينة العدوان الجديد غرف التعميد المعدنية هجوم صاعق على الطمأنينة الزائفة التي يحاول الإنسان العربي أن يغلف نفسه بها وهذا الهجوم لا رحمة فيه لأن الوضع العربي الراهن لا يحتمل الرحمة أو الممالقة وكما عودتنا أمينة فمن خلال أسلوبها التشريحي السوريالي المبدع، استطعنا أن نتعدى الدهشة إلى الواقع فهي تتناول بصنفها الشبيه بالمغرز وتروح في نوبة من تجريح الأحاسيس والعيون البليدة وكأني بها ساحرة تركب مكنسة همجية لا لتكنس مساحات الوعي العربي من الشوائب بل لتضربه بقوة بهدف إيقاظه.

ولو أردنا أن نحلل أسلوب وتراكيب أمينة الشعرية من خلال منظور الشعر الحديث الذي يعتبر القصيدة عبارة عن كائن حي له مقوماته الخاصة لاستطعنا أن نفهم شعر وصور أمينة الصادقة التي تمتاز بالمزاج الحاد والنفس القصير.

وقد عرف لويس سمسون الشعر في قصيدته الموجزة “الشعر الأمريكي” قائلاً بأن الشعر له معدة تستطيع هضم المطاط والفحم واليورانيوم والأقمار والأشعار، أي شبيه بمعدة الشارك التي تهضم حتى الأحذية والتي لديها القدرة على العوم في الصحراء والسباحة لعدة أميال وهي تصدر أصواتاً.

وقال كالفن هرنتن في الطبل البعيد أن القصيدة صوت يضرب الأذن، صوت مميز له مقوماته الخاصة التي تجعله شبيهاً بالقبضة فالشعر ليس تشبيهاً أو رمزاً لا ريحاً تهز الأشجار أو قطعة دهستها سيارة الشعر كائن له صوت وكلمات وفم يتكلم يد تكتب وقبضة تضرب.

من هذا المنطلق نتقبل شعر أمينة الذي يعتمد في شكله ولغته وتراكيبه على الأشلاء المبتورة للصور وكثرة التعداد والتضاد والتكرار للحم هذه الصور وإيصالها للقارئ بإيقاعات مختلفة ومتسارعة تنطق بلسان هذا الكائن الغريب شعرها الذي غالباً ما يدهشنا بهبات سوطه التي تقطر ألماً ودماً ودماراً.

مع أمينة بطبيعة الحال نهجر الوزن والقافية والشكل البنائي الموسيقي للقصيدة وذلك لا بغضاً بها بل احتراماً لمكاسبنا اللغوية والحضارية الماضية فشعر المعلقات أو الفتوحات قد استوعب من ناحية وظيفية، أمجاد الأمة بثقافتها وتاريخها وعظمتها أما الشعر الحديث فلا يعبر إلا عن صوت الشاعر وحدة في لا شعوره يكمن الألم لعجزه عن لحم أجزاء الأمة العربية التي تزداد انقساماً وشعوبية.

كان الشاعر العربي الأول يحمل تطلعات الأمة كلها في شعره أما شاعر اليوم فهو عبارة عن جزيرة تجزأت شطآنها وهربت في بحر المدينة المكون من غرف تعميد معدنية كما يشير إليه عنوان ديوان الشاعرة ضاع عنصر الوحدة وضاع اللاشعور الموحد لذلك ضاع الوعاء اللغة وأصبح شاعر اليوم يجرب التراكيب اللغوية الجديدة لكي تركب على صور العالم العربي المجزأ، وأعتقد بأن شاعرنا العربي مهما كانت أزمته فهو صادق مع نفسه ومع الواقع.

وكذلك نرى الصدق في معاناة أمينة والسعي الحثيث إلى زرع القلق والتوتر حولها فهي لا تستطيع أن تسكت همها جاء على شكل ومضات مثيرة تكهرب وجدان القارئ وهذا الهم بالذات قد نجح في أن يتجدد من خلال أسلوبها الخاطف أنها في ثلاث كلمات فقط معادة ومكررة على وتيرة واحدة تستطيع أن تعبر عن التردد ليس فقط عند الإنسان العربي بل تكوينة شخصيته الحالية التي تخطى الحاجز – قف – نسمع أحدهم يردد افعل كذا وإنسان آخر يعترض ويقول قف والترداد هنا قد ساعد في إظهار المعنى المراد إيصاله وقرع إيقاع الطبلة الممل الذي يشحننا بالتوتر، إنها كمن يضرب حجراً في بركة راكدة نرى ونسمع الصدى قد يعتبر بعضهم شعر أمينة ألغازاً بجانبها الهلوسة إلا أن الألغاز في الشعر الحديث تعبر عن الإحساس بفقدان الأمان والبديهيات الأساسية التي تعيد إلى الشاعر الأمل بالمستقبل.

نماذج من قصائدها:

ودخول القارئ إلى عالم الشاعرة محفوف بالمفاجآت الدرامية ذات النزعة التهكمية ففي “اختفاء المدن” ينتابه شعور بالسرقة الشاملة التي تبهر الوعي مدن تختفي مدينة وراء مدينة والمواطن فيها مسلوب الإرادة لا علم بأن العدو يحلم بسرقة الموجود منها والتي لم تظهر بعد وتعلن الشاعرة عن شعورها بالفجيعة بأنه لا يوجد أمل بأن يصبح المواطن مقاتلاً فحربه عبارة عن حرف في جريدة منتهى العجز، فقط المقاتل يدرك المكيدة ويطرد من عينه النوم.

في “الوطن” يصاب القارئ أيضاً بحالة تقلص مفاجئة عندما تقض عليه الشاعرة مشهد اختفاء الوطن التدريجي بطريقة مختصرة وضع يده على صدر الشهيد كتب على لوحة سوداء المنزل هو حديقة لا ليس حديقة بل شرفة لا ليس شرفة بل باب لا ليس باباً بل نافذة لا نافذة بل جدار وغرقت اللوحة بالدماء كما نرى يرتكز الإيقاع على التكرار للجزئيات وهو يساعد في تصعيد الإحساس الدرامي بالتقزيم والإعدام.

في “طلاء” تشير المتكلمة في القصيدة إلى مستبد ما يطلي الوجوه والشوارع والجدران بنفسه ثم يعمد إلى خنق عامل الطلاء ويسير به وهو بالرمق الأخير إلى بيته الذي دهنت جدرانه باللون الواحد ويشعر القارئ بأنه أمام إنسان سادي يقتل ويجرجر ضحيته إلى مقرها الأخير، الصورة حية بالنبض الوحشي ومشحونة بالمعنى العميق للدعاية التي تقمع وتسيس الرأي العام.

في “اللص” هناك يد تشير إلى لص سرق الأوراق ولسان أمر يقول ابحث عن هذا اللص خرج هذا اللص إلى الشارع عينها تراقبه المتكلمة في القصيدة تعرف هذا اللص وتعرف أيضاً حقيقة السرقة، وكيفية تنفيذها فهي الطرف الثالث الذي خبأ عنده اللص الحقيبة الفارغة، ومع ذلك لا تستطيع إيقافه أو إدانته لأن اللص نفسه الذي أشارت إليه يخرج إلى الشارع المزدحم ويرمي التهمة على لص ما وسط الجموع المحتشدة.

في “لم ينتهي العرض بعد؟” تشاهد المتكلمة عرضاً لا يعجبها تقوم وتغير الأدوار يعترض المخرج ومن ثم يعمد إلى حرق المسرح والمتفرجين بعضهم احترق والبعض الآخر يحترق والآخر لم يحترق بعد، هذه الدرجات في الاحتراق في شعر أمينة يعطي القارئ بعداً واقعياً للشعب كضحية معدة للصراع القائم على الساحة العربية، والنتيجة أن هرب بعض الممثلين لا المتفرجين فالممثلون هنا يمكنهم الهرب وعندما يهرع البعض لإطفاء الحريق يعترض المخرج على هذا، فالمخرج هنا أيضاً سادي النزعة وقاتل متمرس فهو ينتظر احتراق الذين لم يحترقوا بعد ونشعر أثر إدراكنا لهذا الواقع أن العرض لن ينتهي أبداً، فالمهزلة قائمة ما دام الفساد قائماً كان الأجدر بالشاعرة ألا تضع علامة استفهام في النهاية لأن النهاية مفتوحة وتكون بذلك قد وظفت البناء الداخلي للقصيدة لاستمرارية المعنى وزاوجت الشكل بالواقع.

في “الحقل مسروق” تعمد الشاعرة إلى أسلوب الجدال المنطقي المبسط معربة بذلك عن قلقها وقلقنا الدفين معاً يقول سأغرس أشجار الزيتون في حقلك الذي سرق لكن هل تعتقد والحقل مسروق أنه يمكنك لأن تزرعه.

هنا تشعر باستحالة استرداد الأرض المسروقة رغم حنيننا إلى زرعها وفي جني خيراتها هناك من يمنعنا من الفعل، السارق.

في “الجريمة” أحدهم يرى أخاه يقتل أمامه لا يعترض يبحث هو والمجرم عن المظهر اللائق والطقس الملائم لدفن الجثة منتهى السادية وموت الشاعر.

مثل آخر “احتضار” وهي قصيدة تتحدث عن الإنسان الذي يتنكر لاسمه وهويته، ذلك الذي يتلف النسخ الأصلية ويتأبط النسخ المزورة ويحمل راية الأعداء معدماً ماضيه وحاضره ومستقبله.

كلمة أخيرة من يريد قراءة غرف التعميد المعدنية لأمينة العدوان عليه أن يستحضر في ذهنه واقع الأمة العربية الذي يعاني الإنسان العادي في تفسخاته وانهياره وذلك كي يتمكن من مطابقة الصورة الشعرية على الواقع والكاتبة بدورها تساعد في لحم أجزاء الوعي المبتورة عند القارئ وبأسلوبها الذي يعتمد الصدمة كي تعيده إلى واقعه الذي يهرب منه بالتفاؤل الكاذب.

إن الشعر الذي يستطيع أن يضربك مثل قنبلة عنقودية ويفجر في جلدك وإحساسك ما سبق وخبأته كالدمل في داخلك خوفاً من العيون الشامتة لأكبر دليل على أنه حي وحياته تقبع في الإيقاع الواحد ذو النغمة المحلية التي لا تخلو من الزلات فصورها وإيقاعاتها تقذفك حيناً داخل الحس البدائي المظلم وتترك حيناً آخر على حافة الوعي بلا دليل سوى بصيص من نور يقودك إلى عنكبوت الواقع المشحون بالتوتر العالي وصوت الطبلة الذي يقودك إلى الجنون.