عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر صدر الكتاب الرابع للأديبة أمينة العدوان في مائة واثنتي عشر صفحة من القطع الصغير تتضمن سبعاً وخمسين مقطوعة أدبية تتراوح المقطوعة ما بين عدة كلمات إلى عدة صفحات، وتحت عنوان: “وطن بلا أسوار” والحقيقة أنني عندما رحت أتصفحه انجذبت نحوه بقدر ما صدمت به، لا سيما بعد قراءة مقدمة أستاذنا الدكتور هشام ياغي – الدبلوماسية – التي صنف من خلالها محتوى هذا الكتاب تحت اسم الشعر وكتب مقدمته تلك منطلقاً من هذا التصنيف فوضع الزميلة أمينة في الخطوة الأولى في سلم الشعر صعب المرتقى ومنطلقاً من فهم وتصور متواضع لماهية الشعر والخصائص التي لا بد من توفرها في العمل الإبداعي الذي من الممكن أن نطلق عليه هذا الاسم فإنني أستثني ما كتبته الزميلة من هذا التصنيف دون أن يعني ذلك أي غض من قيمة هذه الكتابة وقد يكون لي عودة فيما بعد لحوار حول هذا الموضوع الذي تجاوزه الأخ الشاعر محمد القيسي في كتابته الاحتفالية عن وطن أمينة العدوان وكما أنني أستثني هذه الكتابة من أن تكون شعراً فإنني أعتقد أنها ليست بالنثر أيضاً لأن ما فيها يتفوق عليه، إنها نوع من الكتابة هجين يقع في منزلة بين المنزلتين حيث يأخذ من عوالم الشعر بعض خصائصه وسماته ومن دنا النثر بعضاً أيضاً، فيزاوج بينهما ويجيء، نوعاً جديداً من الكتابة بدأت أمواجه تضرب شواطئ الأدب في محاولة إيجاد مكان له وانتزاع اسم يليق به وهذا الاسم ليس قصيدة النثر أو الشعر الحر أو الشعر المنثور بالطبع.
وبدءاً أيضاً أقول أن الفنان هو الذي يملك وجهة نظر فنية وهي بناءة ونقدية وفلسفية تهاجم كل ما تجده خاطئاً أو مشوهاً أو قبيحاً وتحاول مهما تستدق أن تبين لنا المنظم والصائب والحسن، والفنان أيضاً يحيا في معرفة دائمة لما ينبغي أن يكون وفي غضب وشفقة دائمين لما هو كائن.
والفن كما يراه الناقد هنري دي لاكروا ليس مجرد إحساس أو صورة أو نقل عن الواقع، أو مجرد تعبير عن الماهيات، بل هو هذا كله مضاف إليه نشاط تركيبي إبداعي هو الأصل في كل ما ذكرنا.
هذا هو وطن بلا أسوار كتاب أمينة العدوان الجديد، مقطوعات تشبه السلايدات أو الإشارات الوامضة، المكثفة الساطعة، البسيطة كلغة الأساطير تحس وأنت تقرؤها أنك تقرأ في لوحات أوغارت أو ألواح سوبر واكد أو كتابات أخناتون بلغة سهلة لا تحتمل التفسير أو التحوير إنها محاولات صامتة لرسم الصخب واحتواء الضجيج بهدوء مبين.
إنها نوع من التوتر يميل إلى القلق والاضطراب أكثر مما يميل إلى الراحة والتجانس والانسجام، تبديه أمينة ببراءة الفنان وبراعته منسجمة مع رأي الناقد الألماني جيمس هوكنر الذي يقول: “أخدش ظاهر الفنان تجد وراء ذلك طفلاً”.
والكاتبة حين تتقرى الواقع أو جوانب منه لا تتناوله تناولاً وصفياً مألوفاً في الرؤية والشعور، بل تنقله إلى صعيد المذهل كما تشوهه وتعريه، لتولد من القبح والتشويه سراً جديداً يولد المفاجأة وهذه بدورها تولد الهجوم غير المنتظر والمباغتة، ولابد من إثارة الأعصاب على الواقع لمداهمته إن الشعور الأدبي الذي كان في ما مضى منبعاً لا نهائياً للفرح والغبطة يتحول لديها ليصبح ترسانة تعج بأدوات التغريب والتعذيب “ديناميكية السقوط والسمو” ومن خلال ذلك فإنه ينبغي علينا لكي ننفذ إلى روح الكاتبة أن نبحث عن الكلمات التي تكثر من استعمالها بما في ذلك الكلمات المتناقضة المعنى التي تصور الأحوال والمواقف النفسية المعقدة كما يقول بودلير.. وللتدليل على ذلك أورد من مقطوعات أمينة هذا النموذج الذي تفاجئ به الداخل إلى وطنها والذي يرى ويحس مكرراً بألفاظه وصوره ومعانيه في معظم المقطوعات:
في وطن فقد الرأس
وفي وطن فقد الجسد
ومن بقي حياً
بقيت له ذراع، وكف، واصبع..
(ص 6)
ونموذج آخر تقول فيه:
الأيدي المقطوعة تجلس على كراس فارغة
قررنا أن تمتد أيدينا جميعاً
وتعمل على إضاءة المدينة بالنجوم
رجل مشلول يضع يده على كرسيه ذي العجلات
واليد الأخرى على قلبه المصاب
ويصرخ
لن تضيء المدينة نجمة
لقد سرقت كل النجوم
وقطعت كل الأيدي
ولن تمتد يد مقطوعة إلى النجوم..
ش (8)
إن أمينة العدوان مرأة صادقة فيما تعكسه من فوضى ودمار الداخل والخارج من خلال روح محاصرة من النافذتين، فالداخل والخارج لا يحتملان ولا سبيل للتعايش معهما ولا سبيل للتخلص منهما، إن حصار الأسئلة والكوابيس في الصحو والنوم:
رأى خيولاً ميتة
رأى سيوفاً مكسورة
تثاءب ونام
تثاءب ونام
حلم بخيول ميتة،
وسيوف مكسورة
ص (14)
وهكذا تنتشر الرؤوس المقطوعة والأجساد المثل بها والشلل والقتلة والخيول الميتة والسيوف المكسورة واللصوص والفاشلون، والدجالون والمزورون والكسالى والببغاوات، والأدعياء، والممثلون، والمنهارون، والمقامرون، والعجزة، والمستلبون والمخيبون واليائسون والحمقى والمحتلون على مساحة هذا الوطن المستباح، فتزكمك حينما سرت وتوجهت روائح الغدر والخيانة والافتراءات وقلب الحقائق وتزوير المفاهيم وطعن الأماني واعتقال التطلعات، وتسد طرقك الانهيارات والدمار وتحاصرك الأسئلة ويتعقبك المخبرون، وتهاجمك الكوابيس، قتل ودمار ورعب وجنون، وفوضى وانهيار، واستلاب واغتراب، هذه مواصفات ومضامين وطن أمينة العدوان الممتد من الماء إلى الماء المغلق أمام أصحابه المفتوح أمام الطامعين، وطن الغرابة واللامعقول، وطن اللاقيم واللاجمال، وطن اللاأمن واللامواطنة واللاانتماء وبالتالي وطن اللا وطن.
بلغة تقترب من عالم رامبو التعبيري والتصويري بالرغم من طبيعة الانفعال المتفجر تكتفي بإفراغ مضمونات مضطربة ومشوشة في جمل قد تصل في بساطتها إلى حد بدائي وفي حجمها إلى ست كلمات، فيها دعوة للتمرد على الواقع وتحطيمه لتكون البداية من تشويهه وتقبيحه والسخرية منه، ومن قيمه بأسلوب تراجيكوميدي وتنفيه لكل شيء لا تستطيع التخلص منه حتى وإن انتهى هذا إلى عذاب العجز عن الإفلات منه، وفي هذا اقتراب من أجواء بودلير الذي يرى أن أول أفعال الخيال إبعاد الواقع أو مرحلة انتقال إليه، والجمال والقبح ليس من حيث القيمة، بل من حيث الإثارة والتنبيه بقصد إيقاظ الشعور الطبيعي بالجمال، أو كما يقول اليوت في أربعاء الرماد إن دفعة القوة التي تجعل القلب الضائع يتصلب ويتمرد، إنما هي قوة تقفز من الداخل إلى الخارج لكي تقابل الإحساس بالواقع المهزوم، إنها مجموعة من الرؤى الحادة الساحرة لفرط ما هي بريئة.
وفي بعض مقاطع كتابها تحاول أمينة أن تحرك يديها في تجربة لطرد الهواء الفاسد، وتلقي بحصاة في بركة الماء الآسن لتتخلص من حالة الشلل والعجز والركود والهمود، منطلقة مما جاء في سفر أيوب حيث نجد أن أيوب يصرخ إلى الرب مما وقع عليه من ظلم لا يستحقه وحينما يحاول أصدقاؤه أن يوقفوه عن الاستمرار في التبرم يقول لهم: “أنتم حمقى، دعوا الإنسان يعبر عن قضيته كما يريد” والهدف من هذا التبرم هو التمرد الذي هو التفريق وإثارة النزاع والتفكيك والتحطيم والتمزيق بأسلوبي اليأس والسخرية، فاليأس حالة عرضية والنفس الإنسانية لا تصمد لليأس طويلاً، لأن اليأس ليس من طبيعتها، بل هي تستشرف دائماً الأمل والرجاء، والآفاق المفتوحة، والسخرية تلذ للإنسان أحياناً ولكنها ضئيلة القدر سرعان ما تفرغ حقيبتها فيتطلع المرء إلى ما هو إيجابي وهذا ما نجده عند أمينة حين تقول:
أعمل في الخريف
أحس أنني سأزهر كوردة
وأنه سيصبح لي لون ورائحة في الربيع..
ص (13)
وفي مقطع آخر:
منطفئة تسيرين
لا طريق ولا مكان لك
في هذه الظلمة
كوني نجمة
تلقي ضوءاً على هذه الظلمة..
ص (17)
ومن أجل الإضاءة للآخرين كما يقول برجسون في تحديده وتوضيحه لدور الفنان بأنه ذلك الإنسان الذي يرى فلا يملك إلا أن يفتح عيون الآخرين لكي يجعلهم يرون ما هم في العادة غافلون عنه تقول أمينة في مقطع آخر:
إن عملك ليس أن تكتبي
إن عملك أن تنشري ما تكتبين
لا أن يموت مختنقاً في ظلمة الأدراج
غير مضيء الطريق لأحد..
ص (21)
أليس هذا ما يقوله لنا ادغار الن بوحين يصرح أنه لو كان عليه أن يعطي تعريفاً محدداً للفن لدعاه إعادة إنتاج للواقع وما تشاهده الحواس عبر حجاب الروح، وأن أعظم إحساس ينقله لنا الفن الحديث هو ذلك الإحساس بالوحدة والقلق، وهل هنالك أشد إحساساً من الفنان بذلك الذي هو كما يقول الكاتب النمساوي روبرت موزل هو أشد الناس شعوراً بوحدة الذات في العالم ووحدتها بين غيرها من بني البشر. ثم أليس العصر الذي نعيش فيه عصر القلق والوحدة والخوف والضياع والإحباط والفشل والاستلاب والاغتراب.
ومن خلال هذا الركام المتزايد والانتشار السرطاني للدمار والفوضى والتشوهات ونمو المساحات السوداء في الواقع والرؤى، تجيء مهمة الأديب الخالدة في أن يرفع هويته ويعمل على تغيير معالم النفوس بقوة الكلمة وسحرها حتى لو قدر عليه أن يضيع صوته في الهواء وأنه لقدر عظيم قدر الفن كما يقول بودلير لا يلاحظ فحسب، بل يتحول في كل مكان نفياً للظلم، أو كما يقول كوكتو أن الفنان يمكنه وهو يتحسس أن يفتح باباً سرياً دون أن يعلم أن هذا الباب يستر وراءه عالماً. وبإرادة الفنان الذي يعبر عن إعادة صياغة العالم بما ينسجم مع طموحاته ويتفق مع رؤاه ويتماثل وهندسة آماله تقول أمينة:
قلت وأنا أكتب أول قصيدة
سأتعلم أن أسير خطوة
وأتعثر خطوة
وأتعلم أن أسير سيراً صحيحاً
ص (22)
ويتشبث الفنان بالحياة رغم الحصار والدمار، وعدم تكافؤ أطراف الصراع وقلة ذات اليد تقول أمينة:
حينما أغلقوا الجامعة
حينما أغلقوا المكتبة
حينما أحرقوا كتباً
رسمت مدرسة، جامعة، مكتبة
حينما منعوا القراءة والكتابة
رسمت شاعراً معلماً موسيقياً..
ص (46)
وفي وجه محاولات القمع والاقتلاع تقف أمينة وتضطلع بدورها الطليعي كفنانة فتقول:
حينما منعوا الأناشيد الوطنية
رسمت عباءة، كوفية، عقالاً
رسمت مقالاً، سيفاً، حصاناً..
ص (47)
وهي أيضاً ترسم هوية صانعي الحرية وبناة أسوار الوطن الآتي وتغني لهم وتلوذ بهم فتقول:
للمحاربين أغني
للمحاربين أنشد
وأهدي شمساً للقادمين إلى المستقبل..
ص (16)
وفي موضع آخر وحينما تحس بالاهتزاز والانهيار تعرف كيف تتماسك وتقول:
أهدم كما تهدم الجرافة البيت الجيد البناء
وتحيله إلى كومة من الأنقاض
يوجد معبد أستطيع أن أذهب إليه
وأبعث فيه
هو بيت المحاربين..
ص (63)
وفي موضع آخر تقول معلنة الإرادة والعزيمة والإصرار على تجاوز العقبات وقهر المعوقات:
أينما أسير
توقفني حواجز خشبية
قد تؤخرني
ولكن لن توقفني عن المسير..
ص (54)
وحول حتمية انتصار الحياة والحرية والمستقبل باستمرار نضال الأجيال كنهر دائم التدفق متجدد الجريان تقول:
يرى أولاده يركضون يصرخون
يرى أن الحياة لا تموت
نهر يستمر في جريانه..
ص (60)
ومنطلقة من إيمانها بدور الفكر والمعرفة في معركة الحياة كسلاح غير قابل للهزيمة والتدمير تقول في مقطوعة مهداة إلى روح الشهيد عبد الوهاب الكيالي:
قتلوه، لكن من يستطيع أن
يجعل من كلماته
موتاً، قبراً، نعشاً
كلماته ستكون وأنتم تقاتلون
أغاني، أشعار، نبتة تنبت ألف زهرة..
ص (89)
وكسيزيف الذي يحمل صخرة ويبدأ من أسفل الجبل، وطائر الفينيق الذي يحترق ثم ينبعث من رماده من جديد تؤكد أمينة على قدرتها على البدء من جديد فتقول:
أخذت الملم أشلائي التي تناثرت
وأخذت أبحث عن إسمي،
وجهي، ملامحي
مولودة من جديد
بعد أن مت بعثت ثانية في الصباح
أنزع ورقة الروزنامة
اليوم الأول في الشهر في السنة
أضع حجر الأساس
لبناء عالم جديد..
ص (109)
وقبل نهاية هذه الجولة في وطن أمينة العدوان تستوقفني بمرارة بعض الهنات والأخطاء النحوية واللغوية والتي تسيء للكاتبة وتزعج القارئ، والتي كنت تمنيت على الأخوة الذين اطلعوا عليه قبل طباعته لو أنهم انتبهوا لها فلا تكون وبعض التكرارات الفاترة التي لو لم ترد لما أخذت الكتاب وصاحبته في شيء.
وفي الختام أجدني مدفوعاً إلى أن أقرأ على لافتة مزروعة وسط الأنقاض وتحت عنوان معارض هذه السطور:
أكتب هذه الكلمات،
وأعرف بعد أن أكتبها
أنهم يريدون كحيوان اقتناصي
وأعرف أن عداوتهم وكراهيتهم
ورغبتهم في موتي تزداد
وبالرغم من ذلك أكتب
وأحس بأنني محصن وقوي
وكأنني مدينة تحيط بها سبعة أسوار
أو أنني أرتدي درعاً واقياً للرصاص
وأنني لن أموت
لن أموت حتى ولو قتلوني..
ص (99)
هذه هي أمينة العدوان وهذا هو وطنها الذي بلا أسوار.